وقف أمام المرآة ينظر لأناقته في شغف وفرح، يوم الخميس وأول حفلة يحضرها للست، لا يصدق أنه سيراها وهي تغني وورائها أحسن عازفين في مصر، كل شيء جاهز وعلى سنجة عشرة، كان يؤمن بالحسد ويعرف أن زملائه في العمل وأصدقائه، وربما أهله يحسدونه على التذكرة، ولما لا؟ إنه الأول من شارعه الذي سيحضر حفلة الست، وما أدارك ما حفلة الست! لم يكن يعلم أين ستصيب العين، لكنه كان متأكدا أن اليوم لن يكون كما خطط له بدقة، بالفعل تأخر سائق الأجرة عن موعده ربع ساعة، مع إنه طلبه قبلها بيومين.. أعتذر له السائق وحاول أن يشرح له كيف كان المكوجي يستوصي به لأنه ذاهب لحفلة الست، لم يركز مع حكايات السائق أكثر ما كان يحمد ربه على أنها فقط ربع ساعة.
وعلى الرغم من التأخير وصل قبل الحفلة بساعة.. كانت قاعة الانتظار مليئة بالناس من جميع الطبقات، يجمعهم فقط حب الفن، فساتين سهرة آخر طراز وبدل محلية من القطن المصري، وقفاطين عربية ومصرية يجمعهم الروائح العطرة، وقف وحيدا ينظر وقلبه يخفق بسرعة من الفرحة وعينيه تلمع من الشغف.. استمع باهتمام لحكاية الرجل العربي وكيف أن الطقس السيء حال دون قدومه جوا، وأنه فضل المجيء لمصر برا حتى يستطيع حضور الحفلة.
دخل البوفيه وطلب شايا على مياه بيضاء، والذي لفت أنتباه شخص لم يكن يعرفه \”واتضح فيما بعد أنه سفير مصر في الأردن\”، قال له السفير إنه رجل صاحب مزاج عال، وبدأ التحدث في الشؤون العامة وفي الحفلة وأحدث أغاني أم كلثوم. كان سعيدا بصورة لا توصف، فلم يكن يتصور أن الدخول ضمن الطبقة العليا بهذه الصورة البسيطة.. مجرد معرفة في المسرح ليصبح معك تذكرة لحفلة أهم مغنية في الشرق، وبدأ يتصور منظر أهل الحتة على القهوة منتظرين صاحب القهوة وجهاز الراديو الإنجليزي المخصص للمناسبات المهمة فقط، ويتصور تجمع أصدقائه عند صديقهم فهمي للاستماع لآخر حفلات الست على الجرامافون قبل الحفلة لمقارنتها بالأغنية القادمة، لكنه الآن ليس معهم.. إنه في حضرة الست.
داخل القاعة قبل بدء العزف.. الكل يتحدث عن الأغنية الجديدة، ومع من تعاونت فيها الست، هل ستتأثر بالملحن محمد الموجي وشكله المختلف عن لونها أم ستتحكم هي في فنه وتسيطر على اللحن؟ الترقب يسود، حتى تظهر الفرقة وتبدأ العزف ويندمج الكل في العزف وينتظر الست ببسمتها الساحرة وطلتها البهية، ومنديلها!
التصفيق الحاد من الجمهور يُشعره أنه في مباراة لكرة القدم للمنتخب، وليست حفلة لمغنية، ومع كل عُربة أو مد من الست كمن يُسجل هدفا في الدقيقة التسعين، التصفيق حار وبضمير.. يصاحبه آهات بندى الدموع من فرط الإعجاب واللذة، يا الله! ما هذه الحالة؟! أحس معها أنه خارج الوقت والمكان، فصوتها يأخذ الحضور إلى عالمها الخاص.. تمر الدقائق، ولا أحد يريدها أن تتوقف عن الغناء، فصوتها يبدو كآلة موسيقية أخرى وهي تعزف عليه بمهارة والكل مستمتعين.. الكل مجانين الست بطريقة أو بأخرى.
الساعة الآن الثانية عشر مساءا.. إذاعة الأغاني من القاهرة، هكذا قال المذيع في الراديو، وهكذا انتهت ذكرياته مع الست وحفلة الست، ورجع لأرض الواقع وإلى \”قشطة يابا قشطة، قشطة يا عم\” والمهرجانات والطبل المكتوم والصوت العالي.. هو يؤمن بالحرية وأن لكل مواطن الحق في اختيار ما يستمع إليه، لكنه يشعر أن كل شيء كان جميلا في زمن الست، وكل من يسمع الست الآن جميل.