كان جالساً على يسار الإعلامي الشهير فيصل القاسم في قناة الجزيرة ضيفا مع الدكتور سيد القمني بحلقة تدور حول العلمانية وعلاقتها بنظم الحكم العربية، وقتها لم أكن أتصور أن هذا الرجل الهادئ المبتسم ذو البدلة القديمة والرخيصة والذي يبدو دكتور أكاديمي عادي يعرض معلومات أكاديمية دون رؤية شخصية، سيكون من أهم الرجال حول ثورة يناير بالنسبة لي إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.
هو عبد الوهاب محمد المسيري، سليل عائلة الميسري البرجوازية بمدينة دمنهور، والده كان أحد أكبر تجار مدينة دمنهور، تعلم في مدارس دمنهور إلى أن التحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة الإسكندرية، ومنها سافر إلى أمريكا بنظام المنحة، ليحصل هناك على الماجستير والدكتوراه في الأدب الإنجليزي المقارن، ثم قرر الرجوع إلى مصر والتدريس في جامعةعين شمس، والتنقل في الجامعات والمناصب، والعكوف على كتابة موسوعة عن اليهود واليهودية، ثم شارك في 2004 في تأسيس حزب الوسط المعارض، وختم حياته في الحركة المصرية من أجل التغيير \”كفاية\” سنة 2007 وعمل كمنسق عام لها، إلى أن توفي في سنة 2008 بعد معاناة مع مرض السرطان.
قد تبدو سيرة مفكر معارض عادية، مثله مثل العشرات الذين يظهرون على شاشات التلفاز يرددون الشعارات الثورية ويتحدثون عن الأخلاق والقيم والفساد، لكن في الحقيقة أننا أمام مفكر لا يأتي زمان بمثله إلا كل مائة عام، حيث ارتدى عبد الوهاب الميسري ثوب الثورية الموضوعية، فأصبح في مكانة لا يصل إليها إلا القليلين، يُشار إلى دراسته الموسوعية في اليهود واليهودية كواحدة من أهم الكتب التي تحدثت عن اليهود في العصر الحديث، وفرض نفسه على المجتمع المصري كثوري نموذجي نتعلم منه إلى الآن.
والحديث في جيوب المسيري العلمية الكثيرة من علم الاجتماع وعلم المصطلحات وفلسفته وأرائه السياسية والدينية يطول، لذلك سنتحدث عن الجانب الثوري في حياته الفكرية والعامة والذي يتسم بالتمرد العاقل، تمرد على وضع متأصل في المجتمع، لكنه بموضوعية، موضوعية مكنته من التمرد وهو على أرض ثابتة من العلم.. غير مندفع ولا متسرع، وأيضا موضوعية صادقة نابعة من عقله وقلبه، لا يعكرها نهم لسلطة أو مال أو شهرة، فيصبح تمردا فريدا ولامعا ولا يُنسى.
ولعل بداية ثورته كانت منذ تمرده على عائلته البرجوازية ودراسته الأدب بدلا من التجارة، لكنه تسلح بتفوقه في اللغة والفلسفة والمنطق، ورغم رسوبه في الرياضيات، إلا أنه استطاع دخول كلية الآداب والتفوق فيها.
وما لبث أن ثار على الدين والسياسة معا، فتوجه للماركسية، وبدأ في طرح أسئلة وجودية، وجد إجابتها في الماركسية، فانضم للحزب الماركسي وأصبح عضوا فعالا فيه، إلى أن عاد وتمرد على الماركسية عندما شعر أنها مجرد شعارات.. نظرة مادية قاصرة للعالم، وأن الدين الإسلامي به من العمق ما يكفى للإجابة على أسئلته، وأنه لا يوجد ماركسيون فعلا وصدقاً، ولكن عندما تمرد، ولأنه كان يقف على أرض صلبة، لم ينقلب على الفكر الماركسي ككل، ولكن حافظ على الجزء الإنساني منها في شخصيته الثرية.
واستمرت معه الثورية حتى في تناوله للأدب الإنجليزي من حيث التأمل فيه، وليس مجرد سرد معلومات، عكس ما كان شائعا، حتى عندما ذهب لأمريكا لم ينبهر بالثقافة الأمريكية الإستهلاكية، والتي تُغلب المعلومات عن عمق المعنى وفكرة تحويل الإنسان إلى إنسان استهلاكي لا يعبأ إلا بالمال والشراء والمادة، فلم تفلح الثقافة الأمريكية في زعزعة ثقته في عالمه الروحي، فحافظ على أفكاره، وسبح ضد التيار، ووقف على صخرته الصلبة، واستطاع أن يحصل على الدكتوراه كما أراد، وبالطريقة التي يريد، واكتسب احترام معظم أساتذته وزملائه.
لم تنته ثورية عبد الوهاب المسيري عن هذا الحد، إنما طلت علينا بوجهه العلمي، فبدأ بموضوعتيه وعلى مدار خمسة وعشرين عاما أن يقدم لنا أطروحة علمية دقيقة عن اليهود واليهودية، تختلف عما كان سائدا، فوضع اليهود في صورتهم الطبيعية البعيدة عن المغالاة في اعتبارهم بشر فوقيون يتحكمون في العالم، وعباقرة بصورة مليئة بالأساطير وخرافات العامة، وبعيدة أيضا عن فكرة تجريدهم من ثوب الشر الواقع في العالم العربي، والتطرف في جعلهم أناس طبيعيون، دون النظر لطبيعة مجتمعهم ودينهم الذي يفرض عليهم الاختلاف عن باقي المؤمنين بالديانات الأخرى، فقدم لنا موسوعة تدرس اليهود بشكل علمي منظم يليق بثقافة عريقة تملك لغة ثرية وفكرا عظيما، وإن كانت الطبقة الأولى من الموسوعة تعطينا تفسيرا وتحليلا للديانة اليهودية واليهود، فإن الطبقة الثانية منها تُصدر لنا أفكار المسيري عن الأصالة والثقة بالنفس والخروج من حيز المستورد للفكر، إلى حيز المصدر له، فالمسيري اقتحم عالم المجهولات والخرافات متسلحا بالعلم والموضوعية، فقدم لنا درسا في مواجهه مشاكلنا \”المشكلة الفلسطينية\” بالدراسة الموضوعية والثورة على أفكارنا بعقلانية وهدوء.
ومما لا أشك فيه أن الميسري هو أخطر رجل على نظام الحكم المصري في فترة تولي مبارك الذي كان متسلحا بامتداد الحكم العسكري، ومصحوبا برجال الدولة العميقة الفاسدة، ومُطعما بثمار عصر الانفتاح من رجال أعمال مُتسخِ الضمير، لأنه لم يكن مغرقا في الاشتراكية بتفاصيلها العقيمة، ولا هو ليبرالي صرف يدعو للعلماني بصورة علنية أو خفية، وكذلك لا يؤمن بفكرة الدين السياسي أو الدولة الدينية، فكان بعيدا عن جماعات الإسلام السياسي تنظيماً، كان واحدا من نسيج الشعب، قريبا من الناس، يهاجم العلمانية الشاملة واشتراكية الشعارات وإسلام الحكم، فلم يكن من السهل عليهم اتهامه الاتهامات السهلة التقليدية، كان وسطا بينهم، ولذا أسس حزب الوسط، وبدأ في كفاح ضد نظام فاسد بكل أركانه، فأصّل لفكرة الثورة والعدل، ودخل حربا غير عادلة مادية وروحية، فإن كنت تمتلك السلطة كل الإمكانيات المادية لخمد ثورته، فامتلك هو كل أدوات الروح من قلم فصيح وصبر نادر وعزيمة لا تنتهي.
مع كثرة المشاكل الحزبية، أسس الحركة الوطنية للتغيير، مؤمنا بالثورة، والتف حوله الكثير من المعارضين، إن لم يكن كلهم، وخصوصا الشباب، لكن سُنة الدنيا تدخلت، وحالت دوننا ودون مفكرنا الكبير بمرضه بالمرض الخبيث جداً هنا بالذات، فحرمنا من رويته في ثورة أصّل لها بكتبه وأفكاره وشخصيته وسط تجاهل حكومي لطلبه للعلاج على نفقة الدولة.
الطلب الثوري في حد ذاته، والذي ظل حبيسا لمدة خمس سنين حتى تدخل أمير خليجي، وتكفل بعلاجه، لكن كان أمر الله قد نفذ، وتُوفي في شهر يونيه من عام 2008، ورحل عن عالمنا المسيري.
رحل ولم أدرك حينها مقدار المصيبة، لكن ظلت شخصيته الثائرة الموضوعية المعتزة بدينها وثقافتها تجول حولي وتعطيني إشارات لتكتمل الصورة أكثر فأكثر بداخلي، ربما هم قليلون من يجبرونك على الدعاء والحب لأفكارهم وشخصيتهم، لكنه من أهمهم.
رحمة الله عليك يا أستاذنا، أراك في جنة الخلد، ولنتقاسم التفاح الذي حلمت به وأحلم به.