محمد الجزار يكتب: إنما العلم فى التعلم

فى الوقت الذى يُعيد فيه العالم النظر فى مدى صحة فكرة التعليم المدرسى القائمة على منهج موحد يدرسه جميع الطلاب دون النظر إلى اختلاف قدراتهم وميولهم، نجد أقصى طموحات ومطالب أولياء الأمور فى مصر، هى تخفيف المناهج الدراسية – ولاسيما لتلاميذ التعليم الأساسى –  بحذف أجزاء منها.

والحقيقة أن مطلبا من هذا النوع يمثل حالة البؤس التى أوصلونا إليها، وكأن مشكلة التعليم فى مصر تتلخص فى مجموعة صفحات نريد حذفها من هذا الكتاب أو ذاك، غاضين الطرف عن مشاكل منظومة التعليم الأساسية، بداية من غياب نظام منطقى وعادل للتقييم، مرورا بالأدوات والموارد اللازمة للعملية التعليمية، وخصوصا الجانب العملى والتطبيقى منها، وصولا إلى المعضلة الأكبر ألا وهى القبول بفكرة المنهج الواحد الذى يتم تدريسه للجميع دون النظر إلى قدراتهم وميولهم، ليخرج لنا مجموعة متشابهة من القوالب، لم تعد الحياة ولا أسواق العمل فى حاجة إليها.

إن فكرة النظام المدرسى بشكلها الحالى القائم على مناهج موحدة يدرسها الجميع بنفس الكيفية، نبعت فى الأصل من الإمبراطورية البريطانية قبل مئات الأعوام، ونظرا لحاجة الإمبراطورية فى توسعاتها الاستعمارية إلى موظفين نمطيين يؤدون نفس الأدوار، جاءت فكرة إنشاء المدارسة النمطية التى تدرس للطلبة نفس المناهج بنفس الكيفية.

أما الآن فطبيعة الحياة المتطورة التى نعيشها، قد جعلت أسواق العمل فى حاجة دائمة ومتسارعة إلى المزيد من العمل الإبداعى، وهو الأمر الذى يظهر جليا فى تشجيع الحكومات للشباب على التوجه إلى ريادة الأعمال وتكوين شركاتهم الناشئة، بل إن العديد من الشركات الضحمة بدأت تميل بشكل ملحوظ نحو الاستعانة بأفراد مستقلين لتأدية المهام التى تريد إنجازها عن طريق الإنترنت، دون الحاجة إلى تعيين مزيد من الموظفين لديها، فكل الطرق تؤدى إلى حاجة الحياة والمجتمع إلى المزيد من الإبداع والبعد عن النمطية، فكيف يتفق هذا مع وجود نظام مدرسى يفرض مناهج موحدة، يتم تدريسها بنفس الكيفية، مخرجا لنا قوالب جديدة تحمل ذات النمط، ثم نطالبهم بالإبداع؟!

إننى اتعجب فعلا من قبولنا جميعا، بأن يختار شخص ما – أو حتى مجموعة من الأشخاص – رواية بعينها لكاتب معين، أو قصيدة محددة لشاعر ما، فيفرض قراءتها ودراستها –هى دون غيرها– على مئات الآلاف – وربما الملايين– دون إتاحة الفرصة لهؤلاء فى اختيار قراءة الروايات أو القصائد التى يشعرون بشغف تجاهها، ألا يكفى مثلا أن نطلب من كل واحد فيهم أن يختار رواية أو مسرحية أو أى عمل أدبى يُعجبه أو يشعر بشغف تجاهه ليقرأه هو، ويخبرنا بنفسه عما أعجبه أو ما لم يعجبه فيه، هل لديك شك أن الفرد الذى سينتجه النظام الثانى، سيكون أفضل بمراحل على مستوى المهارات الفردية والشخصية من الفرد الأول؟

إن الهدف الحقيقى من أى منظومة تعليمية هو إكساب أفرادها القدرة على التعلم، أى القدرة على البحث والتفكر والوصول للحقائق أو التشكيك فيها، وليس الهدف أن نخرج أجيالا تحفظ نفس الأناشيد، وتحتفظ فى ذاكرتها بنفس المعلومات والمعادلات والأرقام التى صارت متاحة ومتوفرة بضغطة زر.

لقد كانت أجيال آبائنا من الطبقة المتوسطة فى مصر تؤمن أن رسالتها الأساسية فى الحياة هى توفير الفرصة وكل الدعم لأبنائها، لكى يتعلموا ويحصلوا على شهادة جامعية، قناعة منهم بأنك مادمت تحمل تلك الشهادة، فكل سبل الحياة الكريمة ستتوفر لك، وقد أخذت الأجيال الحالية صدمتها الكبرى حين حملت تلك الشهادات، فوجدتها فى الأغلب لا تسمن ولا تغنى من جوع، أو فى أحسن الأحوال تحتاج معها إلى مهارات أخرى حتى تمكنه من الحصول على فرصة توفر له حياة كريمة، والحقيقة أن جيلنا الحالى يرتكب نفس الخطأ حين يظن أن تعليم أبنائه فى هذه المدرسة الدولية أو تلك المدرسة التى تدرس على الطريقة الأمريكية أو البريطانية هو الملاذ الآمن الذى سيمنح لأبنائه فرصة الحياة الكريمة أو المميزة، فالعالم الآن لم يعد فى حاجة لمزيد من القوالب حتى وإن كانت بدرجة جودة أعلى من القوالب السابقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top