د. محمد أشرف حماد يكتب: ده موز يا لينا.. بس إحنا حالقين له

قل لي, ماذا تفعل غدا؟ هذا آخر يوم في أسبوعك المشحون بالشد والجذب.. هل تملك وقتا خاليا؟ هل تنطوي محفظتك على 150 جنيها زائدين عن حاجتك؟ إذن هلم, نحن بصدد تجربة فريدة من نوعها, سنذهب إلى الحارة!

يقيم نادي الفيلم والمسرح بالجامعة الأمريكية, غدا الخميس 23 أبريل حدثا غريبا, إنه يقدم الحارة المصرية! أي أنك تدفع مبلغا من المال، كي ترى \”سكان الحواري\” التي تتناثر في أرجاء وادينا -الذي كان طيبا- باعتبارهم أنواع مختلفة من الجنس البشري!

يقول الشرح التوصيفي للحفل: \”هنجيب الحارة لغايه عندكوا.. حارة حقيقية ببيوت بسيطة.. اقعد على القهوة البلدي و العب دومينو وطاولة وكوتشينة, وعربيات فول، بطاطا، ترمس، درة، حلابسة، غزل البنات، فريسكا\”.

أصبحت الهوة بيننا أكبر وأوضح من ذي قبل.. الآن يدفع الأغنياء نقودا ليروا كيف يحيا البسطاء, ويأتي فريق المسرح بممثلين ليري الناس شخوص الحارة, ويذهبون إلى محلات فخمة يدفعون الكثير ليشربوا عصير القصب، ويأكلون الكبدة الإسكندراني.. هذا تطور فريد من نوعه حقا, كأن الشاب الدارس بالجامعة الأمريكية لا يجلس على المقهي ولا يعرف عربات الفول, أو كأنه أجنبي أزرق العينين ينظر إلى البطاطا والترمس باعتبارها \”حاجات أورينتال خالص\”.. هي أشياء غريبة عنه، وهو غريب عنها.. أشياء لا تدخل ضمن تعريفات عالمه.

– إيه دي يا أنور افندي؟

– دي طعمية يا ست هانم.

– إيه؟

– طعمية يا ست هانم.. كباب وطني يعني.

– الله يا أنور أفندي! أنا بحب الطعمية! أنا بموت في الطعمية!

\”مشهد من فيلم \”الدلوعة\” بين نيللي وفريد شوقي.. سيناريو وحوار بديع خيري ونجيب الريحاني\” .

لم يعد الأمر هكذا, فالفيلم الجميل الذي أنتج في عام 1969 لأضحك عليه في طفولتي، أصبح واقعا سخيفا.

تقول الصفحة الرئيسية للإيفينت على موقع الفيسبوك أنها تقدم محلات الحارة المصرية: \”ميكانيكي ونجار، فكهاني وخضري، مصوراتي عجلاتي وحلاق، مخبز عيش و عطار، كشري و فطير، كباب وكفته و عصير\”.

لا أفهم, هل سقطنا سهوا في الغيبوبة؟ هل لا يعلم طلبة الجامعة الأمريكية المخابز ومحلات الكشري؟ هل لا يصلحون سياراتهم ولا يأكلون الفطير؟

أعرف شبابا كثر في الجامعة الأمريكية, من انتهوا من دراستهم ومن مازالوا يدرسون, واعلم جيدا فارق المستوى الاجتماعي الذي تفرضه جامعة خاصة مثلها, إلا أن هذا السلوك العجيب لم يعد مستساغا بالنسبة لي.

يعلم من درس بالجامعة الأمريكية أن كثيرا من طلابها يأتون من تلك الأحياء الشعبية البسيطة التي تمتلئ بالحارات, مثل السيدة زينب وعابدين وغيرها.. ليس من يحيون هناك كلهم من الفقراء، والمساكين الذين يصارعون لقمة العيش.. لا تكن ساذجا.. هذه أحياء عريقة جدا, وبها من الأغنياء والعائلات الكبرى الكثير.

فور انتشار الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي, تتسارع الآراء المستنكرة للحفل ومن نظموه, فترد منظمته \”ياسمين زغلول\” وهي فتاة مهذبة – كما يبدو- وتقول: \”إحنا مش قاصدين نتريق على الناس البسيطه، بالعكس.. الناس دى محدش فينا واخد باله منهم، وفكرتنا عنهم غلط.. إحنا حبينا نلفت النظر ليهم، ونقرب المسافة، ونبرز الجمال اللي موجود في عيشتهم وعادتهم وتقاليدهم\”.

هذا رد مستفز جدا إذا جاز لي التعبير, وإذا كانت الردود بهذه الطريقة، فإن الصمت لكم نجاة! نقرب المسافة؟ ماذا تقصدون بعيشتهم وعادتهم وتقاليدهم؟ هل يظن طلاب الجامعة الأمريكية, أن سكان الأحياء البسيطة يسيرون على أربع ويتسلقون الجدران؟ وهل تختلف عادتهم وتقاليدهم إلى هذا الحد عنكم سكان المعادي والزمالك والرحاب؟ لدرجة أنكم تدفعون أموالا لتروها؟

الشئ الأنكى هنا ليس ما حدث ولا دوافعه, لكن الحقيقة أن القاهرة وحدها تحتوي على عدد غير قليل من الأجانب, يتوزعون بين أحيائها.. الجميل, أن أغلب هؤلاء, يجلسون على المقاهي الشعبية دون مشاكل, ويلعبون الطاولة والدومينو ويأكلون في كشري أبو طارق ويطلبون كمالة, بل إن منهم من يدمنون لحمة الراس والنيفة والرز باللبن.

يأتي الأجانب إلينا فينغمسوا في أحيائنا البسيطة وعاداتنا وتقاليدنا بلا تكلف, ويبدع المصريون ويخترعون احتفالا ضخما مقابل تذاكر كي يرى المصريون مخلوقات الحارة.

المجتمع المصري مجتمع شائك بعنف, والتغيرات التي تطرأ باستمرار، أصبحت أكبر من قدرتنا العاجزة على إدراكها, ويبدو أن مرحلة الآنسة فكرية بنت الزعفراني باشا التي لا تعرف الطعمية، لم تعد بعيدة أبدا, ولا عزاء لأي شئ, ولا عزاء للبسطاء الذين لا يواكبون التطور المجتمعي الرخيص, الذين مازالوا يضحكون مع سمير غانم وهو يمسك حزمة من الفجل مخاطبا \”لينا\” زوجته بنت الأكابر: \”ده موز, بس إحنا حالقين له\”.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top