هل تتذكر أول مرة عرفت اسم \”أمك\”؟
هل تذكر أول مرة تناديها به.
كنا صغارا.. نطوف القرية بالدفوف عندما \”يختنق القمر\”.. كانت أسطورتنا الساذجة تقول إنه لو طلع الفجر على القمر مختنقا، فسيحل بنا الغضب، وربما قامت القيامة.. كنا نطوف نغني طوال الليل:
\”فاطنة بنت النبي,
عملت رز بلبن,
حلفت ما تقربه,
إلا إن زخزخ القمر\”
كانت بداية مبكرة للإدراك, رجعت ليلتها وسألتها: \”هو أنتي بنت النبي؟\” ضحكت وقالت لي: أنا أبويا اسمه \”سعد\”.
بعد ذلك كنت أسمعها تردد عند كل ضيق: \”الشفاعة يا أبو فاطمة.. الشفاعة يا محمد\”.
لم تتلق طوال حياتها أي حروف للتعلم. قبل مرضها الأخير, كنا في رمضان، وجلست احاول أن احفظّها بعض آيات القرآن.. رددنا بعض قصار السور.. سكتت, وقالت لي: \”يا بختهم المتعلمين.. يعرفوا يقولوا الكلام الحلو كله.. يا ريتهم علموني\”
في إحدى الرمضانات السابقة، جاءنا مبلغ من المال من جهة خيرية لتوزيعه على الفقراء كزكاة فطر.. كنا في بداية رمضان, يومها سأل أخي الأكبر بعضا ممن يُسألون في أمور الدين عن جواز إخراج زكاة الفطر في أول الشهر، فأفتوه بأن يوزع المال عند نهاية الشهر.. لما عرفت قالت لنا: \”والفقير هيقعد بالجوع لآخر الشهر عشان العشرة جنية بتاعتكم؟! هاتو الفلوس أوزعها.. خلي الناس تلحق تاكل لها أكلة كويسة في رمضان\”، وكانت الفطرة البسيطة أرق من فتاوى المتدينين.
نهاية رمضان الماضي تعبت بشدة.
اتصلو بي من البلد تالت يوم العيد أن \”أمك ماتت\”. لم أبك ليلتها.. حقيقة, لم أبك حتى الآن بما يكفي لموت \”أم\”.
طوال العشرين عاما الماضية، لم أقض مع أمي شهرا كاملا تقريبا.. كنت دوما مسافرا عجلا.. الدراسة في القاهرة ثم العمل، ثم السفر للخليج.. حتى في الإجازات كانت تشغلنا الحياة.. اقضي أسبوعا أو اثنين على الأكثر معها.. دوما أنا المسافر. في المرة الأخيرة، سافرت هي سفرا طويلا.. لم أبك ربما ليقيني أنه سفر آخر, وسنجتمع حتما أنا وهي يوما.. قد يكون بعيدا أو قريبا، لكنه مجرد سفر.
يقولون لي إنها \”ماتت\”.. هم لا يعرفون \”فاطنة\” أمي.. أمي لم تمت.
لا تحب أمي أن تأكل من غير عمل يدها.. طبيخها كان بسيطا لدرجة مدهشة, ولذيذا لدرجة أكثر إدهاشا.. اعلم أن طعام كل الأمهات لذيذ، لكنها لم تقبل أن يأتيها طعام لم تشارك في صنعه، فقررت أن تسافر.. فقط لأنها تخجل.
بالرغم من أن عمرها تعدى الستين بسنوات قليلة، وحملت أكثر من عشر مرات، وعاش لها ستة من الأبناء، لكنها كانت تخجل وكأنها صبية صغيرة تلعب في أرض \”سعد أب حراجي\” أبوها.. كانت تخجل حتى منا نحن أبناؤها.. هي قررت السفر حين ظنت أنها صارت حملا على أبنائها، فسافرت بعيدا وحدها.
كانت عند عودتي من السفر تقضي ليلتها مستيقظة تدعو لي الوصول بالسلامة, تلقينا القطارات على أرصفة الوصول عند الفجر.. تخرج أمي على أول الطريق تنتظر القادم من غربته إليها.. كنت دائما اتعجل الوصول.. في المرة الأخيرة سافرت إلى البلد.. لم اتعجل الوصول للبيت.
في الطريق من مطار الأقصر للبلد، كانت هي أول من يستقبلني أيضا, فالقبر الذي تسكنه يسبق بيوت القرية.. ذهبت إليها، وألقيت صباحا سريعا، وقلت لها إني جئت زائرا.. لم أحك معها طويلا.. لا أحب أن أقلقها عليّ في سفرها.. تصنعت ابتسامة، وأنا ألقي عليها تحية الصباح \”صباح الخير يا أمي, أنا جيت اسلم على أبويا وأخواتي البنات ومسافر على طول\”، عندما اقتربت من عتبة البيت، علمت أنها ليست بداخله.. كانت عند إقفالي من السفر ترش عتبة البيت بالماء البارد.. بردا وسلاما للعائد.. كانت ترش العتبة بالماء البارد والحناء عند خروجي للإمتحانات النهائية في المدارس.. كانت ترش الطريق بالدعوات \”في البحر طريق وفي الجبل رفيق يا حبيبي\”.. هذه المرة كانت العتبة جافة تماما إلا من أثر الغبار.
سفر الامهات البعيد لا يستحق البكاء, حقيقة تنتهي قيمة البكاء عند سفرهن.. كنت دوما أبكي أمامها طفلا من أجل قروش.. اشتري بها بعض الحلوى.. بكيت أمامها مرات عديدة شابا تعثرت به ظروف الحياة.. كنت أبكي واطلب منها الدعاء, حقيقة كنت أبكي استنجادا وطلبا لعونها ودعواتها.. كنت اطلب منها الدعاء في الفاضية والمليانة، وكانت تضحك وتقول لي: \”عامل زي مقطعين السوق ما تبطلش شحتفة\” كنت أنت باب الرحمات يا أمي، وكنت أطمع في كرم الله حتى في أصغر الحاجات.