صحيح أن سياسات تحديد النسل الصارمة قد ألغيت، إلا أن ملايين الأطفال المولودين خارج المنظومة لا يزالون يعيشون في الخفاء عالة على ذويهم
الكاتبة: كارولين كان
الناشر: فورين بوليسي
لم ينبغ لي أن أولد، فبعد ست سنوات من تطبيق الصين لما يسمى بسياسة الطفل الواحد وصلتُ إلى العالم كطفلة ثانية لأسرة صينية، وهي تجربة يشاركني إياها ملايين الأطفال الصينيين المولودين -غالبا في الخفاء- بعد عام 1980، ولكن سيظل جيلُنا جيلا فريدًا في التاريخ الصيني. ففي مطلع يناير الماضي أقرت الصين تشريعًا جديدًا يتيح لكافة المتزوّجين أن ينجبُوا طفلين، ولكن الهجرة من الريف والتمدّن الجماعي قد غيرا -في الوقت نفسه- من الحسابات المالية والاجتماعية مقللين من رغبة الناس في تعدد الإنجاب، وتعني هذه التحولات المشتركة أن عدد الأطفال الصينيين المولودين خارج إطار القانون سيصبج أقل بكثير وليصبح ذلك مؤشرا على نهاية حقبة تاريخية.
لقد شغل حجم سكان الصين شبه الأسطوري أذهان قادتها لما يزيد عن القرن، كان (سون يات سين) -الذي يشار إليه باعتباره الأب المؤسس للدولة الصينية الحديثة- دائما ما يذكر \”الربعمائة مليون صيني\” -وهو تقدير لعدد السكان عند مطلع القرن التاسع عشر- في كتاباته، وفي الستينيات أصبح النقاش هو كيفية السيطرة على العدد السكاني الهائل والمتزايد كوسيلة للتخفيف من حدة الفقر وتخفيف الضغط على الموارد الطبيعية، وفي الثمانينيات تبنت الصين سياسة تحديد النسل (أو \”سياسة الطفل الواحد\” كما تعرف بالخارج) في كل أنحاء البلاد لتحد من إنجاب معظم الأسر أكثر من طفل واحد، وأنشأت إدارات تنظيم الأسرة على كافة المستويات الحكومية؛ بدءا من القرى صعودا إلى الفروع الحكومية القومية، ونشر المسؤولون الحكوميون دعايتهم وأصدروا أوراق تسجيل لحديثي الولادة وسيطروا على النساء في فترات الحمل وفرضوا غرامات ثقيلة على الأسر المخالفة لهذه السياسة، بل أحيانا أجروا عمليات إجهاض قسرية وسلبوا الناس قدراتهم الإنجابية بالإكراه.
كنا نحن الصغار نفزع لعبارة \”سياسة تحديد النسل\”، أحيانا كان العاملون بالمكتب المحلي لتنظيم الأسرة يأتون إلى قريتنا ويأخذون النساء الحوامل تاركين أطفالهن يبكون على الأبواب، كان الحمل يُوقف إذا كان في مرحلة مبكرة، أما إذا وصل مرحلة أشد نضجًا فإن النساء يؤمرن بكتابة تعهدات بعدم إنجاب أطفال آخرين ثم يدفعن الغرامة، ويوما حين كنت في السادسة من عمري أتى خمسة أشخاص من هؤلاء واقتحموا بيت اسرة تدعى (أسرة تشانغ) فصادروا كل شيء له قيمة ودمروا سقف المنزل.
لم يُبد الجيرانُ أي تعاطف، وقال البعض أن أسرة تشانغ \”يستاهلوا\”. وقيل في ثرثرات أهل الحي: \”مش لاقيين اللضى، يقوموا يجيبوا عيل تاني ليه؟ ما بتدفعش الغرامة وعايز الحكومة تعاملك زي الباشا؟ لما تشوف حلمة ودنك!\”
سألتُ جدتي لماذا عوملت أسرة (تشانغ) هكذا، فرفعت عينيها عن صحن الفول الذي كانت تقشره أمام المنزل وقالت: \”عندهم عيل تاني وده ضد القانون\”.
كنت مرعوبة لدرجة أني قفزت من فوق صحن الفول الذي وضعته جدتي على الأرض، لم أكن أعلم ما تعنيه \”ضد القانون\” -إذ كنت صغيرة- لكني كنت أعلم أني طفلة ثانية إذ كان الأقرباء والجيران أحيانا ينادونني بـ \”الصغيرة الثانية\”، تلاطمت داخلي أمواج التساؤل، أي من لعبي المفضلي ينبغي أن أخبئه أولا قبل أن يصل هؤلاء الناس ويدمروا بيتنا؟ أين يجب أن أختبأ إن أتوا لاختطافي؟ وماذا لو قرروا البحث عني؟ في ظهر ذلك اليوم اختبئت في ركن فنائنا الخلفي، وفي الأيام القليلة التالية كنت أهرع إلى ذلك الركن كلما سمعت غريبًا يطرق بابنا، لم يعلم والداي ما حدث لي، وطفق أخي الأكبر (ليانغ) يدعوني بـ \”أخته الصغيرة الغريبة\”.
لكن تلك الأشياء التي خشيتها لم تحدث لي أبدا، فلقد دفع والداي 910 دولار غرامة بعد ولادتي بشهر واحد، ضمن لي ذلك أن أُمنح (الهوكو) أو وثائق التسجيل التي تمكن الصينيين من الحصول على خدمات مثل التعليم والرعاية الصحية، وحين جلسنا بعد ذلك بسنوات وتحادثنا عن كيفية إيجادي مكان الاختباء إبان حادثة أسرة \”تشانغ\” كنا جميعا نضحك على مخاوفي الصبيانية، لكننا أيضا كنا نعلم جميعا أنه لم يكن أمرا خفيف الظل كما بدا، ففي عام 1989 -وفقا للمكتب الوطني للإحصاء- كان متوسط الدخل السنوي في الحضر 192 دولارا، بينما لم يتجاوز 91 دولارا في الريف، ولذلك فلقد دفع والداي غرامة تعادل دخلهم لسنوات عديدة.
لم يكن الجميعُ محظوظين مثلي، فعلى الجانب الآخر من الشارع كانت تعيش (مينغ مينغ) صديقة طفولتي، كانت فتاة صغيرة مرحة ذات ضفيرتين معقودتين بفيونكات حمراء، وحين كنا يوما نلهو بجمع الأزهار في فنائنا متظاهرين بأننى نطهو طعاما في مطبخنا الوهمي شاركتني سرا، فقالت: \”ماما في بطنها نونو تاني\”.
كانت (مينغ مينغ) بالفعل طفلة ثانية، فهي صغرى ابنتين، وكانت -على النقيض مني- بلا وثائق تسجيل (هوكو)، ولكن ظل والداها مصرين على إنجاب ولد [ذكر]، وبعد ذلك بقليل اختفت (مينغ مينغ)، وحين طرقتُ باب أسرتها بحثًا عنها أخبرتني أمها أنهم أرسلوها إلى منزل جدتها في إقليم آخر، وحين عادت كنا في نهاية العام وكان أخوها الرضيع قد خرج إلى الحياة، ولم تحصل (مينغ مينغ) على وثائق تسجيل إلا حين تأكد أبواها أن ابنهم الأصغر سيولد بأمان، وإلا كان سيُتخلّص منها وفقا لكلام جديّها، وفي تلك السنوات ظل أبواها يخبئانها كلما قدم مفتشو مكتب تنظيم الأسرة إلى القرية.
لم يكن مبلغ الغرامة هو كل ما ضحت به أمي لإنجابي، فحين كانت في الثامنة عشر بدأت عملها كمعلمة احتياطية، وكان لديها فرصتين للترقية إلى وظيفة معلمة مثبّتة رسميا وهي وظيفة كانت ستكفل لها راتبًا حكوميًا مستقرًا [يُعرف -بين الصينيين- بـ \”وعاء الأرز الحديدي\”] بالإضافة إلى معاش عند التقاعد، لكنها أمي فقدت كلتا الفرصتين؛ الأولى حين تزوجت أبي وأصر حماها أن دور المرأة الأساسي هو رعاية الأسرة فاستقالت من وظيفتها مؤقتا، لكنها عادت لاحقا رغما عن إرادته، والثانية حين أنجبتني واضطرت لترك وظيفتها إلى الأبد -إذ يحظر على العاملين بمؤسسات الدولة بما فيهم المعلمين الأساسيين أن يخالفوا سياسة الطفل الواحد حتى لو دفعوا الغرامة، مخالفة القانون تعني خسارة الوظيفة، وظلت هذه حقيقةً معمولا بها حتى في السنوات اللاحقة، ففي عام 2010 أُقيل أستاذُ للقانون من جامعة الشباب للعلوم السياسية في بكين بعد أن قرر وزوجته أن يمضيا قدمًا في الحمل الثاني غير المقصود، فخسر وظيفته وغرِّم ما يزيد عن 36 ألف دولار.
لم يفهم كثير من الناس سبب إنجابي رغم أن المولود الأول كان ذكرا، فتربية طفل إضافي كانت تعني عبئا ماليا أكبر على كاهل والديّ، كان والداي يؤثران طفليهما على نفسيهما، كانا يقتصدان عند شراء أي شيء يحتاجونه ولم تبتاع أمي أبدا ما أحبت من الحلي في شبابها، ولكنها لم تتردد أبدا في دفع مصاريف ما تلقيت من دروس الرسم.
وقالت أقرب صديقاتها -وكان معلمة ولها طفل وحيد-: \”قد إيه كان هيبقى الحال أحسن لو كنتي اكتفيتي بـ (ليانغ) بس، كنتي هتبقي مدرسة متثبّتة وبتاخدي مرتب محترم ومعاش من الحكومة وكانت الدنيا هتبقى مبحبحة شوية معاكي\”، لكن أمي لم يعجبها النقاش -وخاصة في وجودي- وكانت ترد ببساطة \”دا قرار وأخدناه\”.
أكاد أستوعب سبب رغبتها في إنجاب المزيد من الأطفال، لقد أتيتُ من أسرة كبيرة، وفي الثقافة الصينية التقليدية كان كثرة الذرية سمة من سمات العائلات الثرية، ولقد أنجب جداي لأبي -وكذلك جداي لأمي- سبعة أبناء في كل جانب، وتشاركوا سويًّا السعادة والأعباء أيضا، وحين مرضت جدتي بالمستشفى كان أبناؤها السبعة يتناوبون على رعايتها، وفي الأعوام السابقة لتأسيس جمهورية الصين الشعبية [1949] خاضت البلاد حربا ضد الغزاة اليابانيين لثمان سنوات، ثم وقعت بعدها في حرب أهلية استمرت لأربع سنوات أخرى، قتل في تلك الصراعات مئات الملايين، ولبناء الأمة الشابة شجّع الزعيم الشيوعي \”ماو تسي تونغ\” الناسَ على إنجاب المزيد من الأبناء، وكانت النساء اللاتي ينجبن الكثير من الأبناء يلقبن بـ \”الأمهات البطلات\”، ولذلك حين انقلب الحال إلى النقيض تماما كانت أسرتي ترى ذلك أمرا سخيفا، ورغم التقييدات كان لكل عم من أعمامي أو خالة من خالاتي طفلين اثنين.
ورغم استعداد أمي للتخلي عن وظيفتها ظل إنجاب طفل ثان أمرًا غير يسير، فبعد ستة أشهر من إنجاب أخي الأكبر أصطحبها العاملون بمكتب تنظيم الأسرة إلى المستشفى وأرغموها على وضع جهاز داخل الرحم وكان ذلك إجراءً شائعًا وقتئذ، وكل بضعة أشهر كانت النساء اللاتي أنجبن بالفعل طفلا يساقنَّ إلى المستشفى لالتقاط صورة بالموجات فوق الصوتية للتأكد من وجود الحلقات داخل الرحم.
وقالت أمي: \”الطريقة اللي كانوا بيعاملوا بيها الستات لما يحشروهم في العربيات وأحيانا في عربيات نقل بدكك خشب.. كانت عاملة زي الجزارين وهما بيشحنوا الخنازير للسلخانات، ماكانش فيه كرامة، وعلشان نصبّر نفسنا كنا نشتم فيهم أو نغنّي أغنية\”
فسألتها: \”بس دي وظيفتهم، مش كده؟\”، فأجابت: \”ماحدش شغلهم الشغلانة دي بالعافية، ودايما كانوا يقدروا يسيبونا، إنما هما استخدموا سكينة السلطة علشان يقتلوا بيها أطفال كتير من قبل ما تتولد\”.
في ربيع عام 1988 نزعت أمي -خفية- الحلقة من رحمها، ولكن لم يمكنها الهرب من الكشف الطبي الدوري، كانت هذه هي سنوات تطبيق السياسة بقبضة حديدية، وكان على أمي أن تبتكر حيلة، ولذلك ارتدت يوم الكشف معطفا طويلا ووضعت في جيبه خاتمًا من حديد ثم ضبطت الجيب ليبودا الخاتم في نفس المكان الحلقة، وأظهرت الصورة حلقة حديدية في موضعها السليم، كانت حيلة بسيطة ولكنها نجحت بامتياز، وحملت أمي وحين عُلم بسرها كان الجنين أكثر نضجا من أن يُجهض، وفي مارس عام 1989.. وُلِدْت!
سألت أمي عن الحياة التي كانت ستصبح \”أفضل\” لو أنها اكتفت بأخي الأكبر، فلو أنهما لم ينجباني لأصبحا أكثر شغفا بالسفر وقدرة على اقتناء ما يحبون ولما اضطروا إلى المبالغة في حسبان كل مليم من دخلهم، فأجابت: \”بس من غيرك كل الحاجات \”الأحسن\” دي ماكنش هيبقى لها معنى\”.
أعلم أني محظوظة، في يوم خريفي عام 1994 أُخِذتُ إلى بيت قريبٍ لنا حيث تجمع الناس حول طفل وليد، كان أبوه معلمًا ولم يُسمح له رسميًا بإنجاب طفلٍ ثان حتى لو دفع الغرامة، ولكي ينال إذنًا بالإنجاب كان عليه أن يزوّر شهادة يدّعي فيها أن ابنته الأولى معوّقة جسديا -وهي حالة استثنائية في القانون تبيح إنجاب طفل آخر، وظل الزوجان يترددان لعام كامل بين العيادات لتزوير الشهادة، وتمكنا -بفضل بعض التلاعب- أن يؤمّنا إذنا بالإنجاب، وفي أعوام مراهقتها تمردت الإبنة بشدة وسخطت على بيان الحالة الصحية الرسمي الخاص بها، وكانت تشعر أن أبويها قد أهاناها واستغلاها.
في أكتوبر 2015 حين أعلنت الصين أن \”سياسة الطفل الواحد\” ستصبح قريبا \”سياسة الطفلين\” شعرت أنها بداية عهد جديد، حين أتقدم في العمر سأحكي لأحفادي أني لم يكن لدي أدنى فرصة للمجئ إلى هذا العالم، وسأقص عليهم الحكايات العبثية أو الظريفة أو البائسة أو الفارغة، ولكنها حكايات أظنها جميعا ساعدتني على تقدير قيمة ما عشت والاعتزاز بمن قابلت، ولست أدري ما سيعلق به هؤلاء الأحفاد.
وحدث بعد إلغاء سياسة الطفل الواحد أن حاولت الاتصال بمكتب تنظيم الأسرة في مسقط رأسي لأسألهم عن عملهم السابق، قوبل طلبي بالرفض، وقال عمي: \”فيه اتنين مديرين من مكتب تنظيم الأسرة هنا عايشين دلوقت في وحدة ويأس، الاتنين عيّلهم الوحيد مات، إيديهم متلطخة بحياة أطفال كتير، شوفي ربنا عمل فيهم إيه\”، وضعت سماعة الهاتف وفكرت في المفارقة التي لا يمكن تصديقها، ولكني أظن أن العالم أحيانا يحوي مفارقات كهذه.