مترجم: تأثير شازام

ترجمة: چورچ عياد
The Shazam Effect:

تقوم كافة شركات الانتاج الصوتي بمتابعة كلمات البحث ومعدلات تنزيل واستماع الأغاني على الإنترنت للتنبؤ بالأغاني التي سوف تحظى بالقبول والانتشار.
وهذا بالطبع مفيد للتجارة، ولكن هل هو ضارٌ للموسيقى؟
في عام 2000 قام افيري وانج -أستاذ بجامعة ستانفورد- بالتعاون مع اثنين من خريجي مدرسة التجارة بإطلاق مشروع يسمى \”شازام\” Shazam.

كانوا يفكرون في تطوير خدمة بإمكانها التعرف على أي أغنية في خلال ثوان قليلة، فقط باستخدام الهاتف المحمول، ويمكنها أيضًا القيام بذلك حتى وإن كنت تستخدمها في مقهى مزدحم.

وانج، والذي درس التحليل الصوتي وكان مسئولًا عن إنشاء البرنامج، كان خائفًا من أن تكون مهمته مستحيلة، فلم توجد من قبل تكنولوجيا كهذه.. تكنولوجيا يمكنها التمييز بين الموسيقى والضوضاء التي تحدث في الخلفية، كما أن تصنيف الأغاني وفهرستها يتطلب تصريحًا من الشركات المالكة.

ولكنه ابتكر فكرة حطمت كل المخاوف السابقة، فبدلًا من محاولة الاحتفاظ بكافة الأغاني، قام بتصميم خوارزمية (تسلسل منطقي لبعض الخطوات الرياضية لحل مشكلة ما) بإمكانها توليد بصمة صوتية مميزة لكل مقطع صوتي.

وبهذه الفكرة استطاع التعامل مع أي أغنية على اعتبارها \”مجموعة بيانات\” ليس إلا.
أصبح \”شازام\” متاحًا في عام 2002. ولكنه كان يختلف فيما قبل الهواتف الذكية عما هو عليه الآن، ففي البداية كان على المستخدم أن يتصل برقم الخدمة \”شازام\” ويقوم بتشغيل الموسيقى بالقرب من الهاتف، ثم ينتظر\”شازام\” حتى يتعرف على الأغنية ويرسل له رسالة نصية بها عنوان الأغنية واسم الفنان.
منذ ذلك الحين وحتى الآن، قام المستخدمون بتنزيل \”شازام\” أكثر من خمسمائة مليون مرة، واستُخْدِمَ للتعرف على أكثر من ثلاثين مليون أغنية، حتى صار واحدًا من التطبيقات الأكثر شهرة على مستوى العالم.

وبينما يراه المستخدمون على أنه أداة فعالة للتعرف على أسماء الأغاني غير المألوفة، فإن قيمة \”شازام\” أكبر بكثير لدى شركات الانتاج الصوتي، فهو بالنسبة لهم أداة سحرية للتنبؤ بالمحتوى الذي سيلقى نجاحًا في المستقبل.
بدراسة بسيطة لـ20 مليون بحثًا يوميًا، يستطيع \”شازام\”، وقبل أي أحد آخر، تحديد الأغاني التي تحتل الصدارة بين المستمعين، وأكثر الأماكن التي تنتشر بها تلك الأغاني.

\”نستطيع التنبؤ بأن أغنية ما سوف تحدث ضجة وتلقى رواجًا كبيرة قبل أن يحدث ذلك بشهور، قبل حتى أن يعرفها معظم الناس\”، هكذا تحدث چيسون تيتوس، المدير التقني السابق لشازام، وهو يعمل الآن كمدير عام في شركة جوجل.
في العام الماضي، أصدر \”شازام\” خريطة تفاعلية تحمل بيانات البحث الذي يتم عليه.

بإمكان مستخدمي التطبيق تقريب الصورة على أي مدينة بالعالم، ويروا الأغاني التي حققت أعلى معدل بحث على شازام في تلك المنطقة، ساو باولو أو مومباي أو نيويورك.

تمثل هذه الخريطة مؤشرًا حقيقيًا يوضح أماكن وأوقات انتشار الأغاني الأكثر نجاحًا، وبذلك يلقي لمكتشفي المواهب الضوء على الفنانين ذوي المواهب غير المتعاقدين مع شركات إنتاج، لاكتشافهم حال ما يخطون أول خطواتهم في طريق الفن.

يوجد لدى الشركة فريق كامل مختص بتحديث قائمة مكتبة الأغاني الموجودة لديهم، لتزويدها بأحدث المقاطع التي تم تسجيلها، حتى وإن كانت إنتاجًا مستقلًا، من جميع أنحاء العالم، كما يمكن للفنانين إعطاء \”شازام\” قائمة بأحدث أعمالهم.

\”نحن نعرف من تبدأ شهرة أغنية ما، وبإمكاننا متابعة رحلة انتشارها\” هكذا تحدث تيتوس.

لنأخذ على سبيل المثال \”لورد\”Lorde المفاجأة الغنائية الأكبر لعام 2013: يستطيع مهندسو \”شازام\” اقتفاء آثار الشهرة العالمية التي انطلقت مع أول أغانيها \”رويالز Royals\”، فقط بمتابعة عمليات البحث التي تمت على \”شازام\” حيث نراها تمتد من نيوزلندا –مسقط رأسها- إلى ناشفيل (وهي بؤرة هامة بالنسبة لجمهور الموسيقى) ثم إلى السواحل الأمريكية.

باستطاعتهم تحديد اليوم الذي بلغت فيه معدلات البحث عن الأغنية ذروتها فيما يقرب من ثلاثة آلاف مدينة أمريكية.
لقد أصبح \”شازام\” هو التطبيق المفضل بالنسبة لوكلاء صناعة الموسيقى في كافة أنحاء البلاد، حتى إن الشركة نفسها أعلنت أنها سوف تخوض التجربة في عالم صناعة الموسيقى بنفسها، لتضع هي الأخرى بصمتها في عالم الموسيقى بعد \”مجموعة وارنر للإنتاج الموسيقى\” Warner Music Group، حيث تخطط الشركة للدخول في مجال الانتاج عن طريق الفنانين الذين تم اكتشافهم بواسطة التطبيق (شازام).
تمثل عملية البحث على \”شازام\” واحدة من طرق عدة لجمع البيانات المتعلقة بسوق موسيقى \”البوب\”، حيث يقوم منظمو الحفلات بمتابعة مستخدمي برنامج \”سبوتيفاي\” ليحددوا مسارات الجولات الموسيقى الأمثل التي ستتضمّن الحفلات التي ينظمونها، طبقًا للبلاد التي بها أكبر عدد من المستمعين، كذلك يتابع المغنون معدلات الاستماع على راديو \”باندورا\” في بلدان مختلفة، لمعرفة الأغاني التي يفضل أداؤها في كل بلد على وجه الخصوص.

إن كل ما نفعله في الحقيقة من متابعة لكلمات البحث والاستماع والتنزيل والمشاركة، لا نفعله إلا للإجابة على سؤال واحد تطرحه علينا صناعة الموسيقى، وهو: \”وماذا بعد؟ ما هي الأغنية التالية التي يريد الناس سماعها؟\”
لطالما أجاب منتجو الموسيقى على هذا السؤال استنادًا إلى فطنتهم، ولكن البيانات التي صار باستطاعتنا الحصول عليها، قلبت موازين التفضيلات، وبدّلت ترشيحات الخبراء بالتوقعات المبنية على\”حكمة الحشود\” (ومعنى ذلك أن تُبنى الاستدلالات على إحصائيات مأخوذة من عدد كبير من المستمعين، والتي تكون متوسط نتائجها أدق وأرجح من توقعات الخبراء التي لا تخلو من المجازفة)، وكنتيجة لهذه التحول، ازدادت قدرة المنتجين على إدراك ما يريد الناس سماعه.

هذا هو الجانب المشرق الذي وجدته صناعة الموسيقى في عصر الثورة الرقمية، والذي تحول بكل سلاسة إلى أرباح، لذا فمن المؤكد أن ذلك كان مفيدًا للتجارة، لكننا لسنا على هذه الدرجة من التأكد من أنه كان مفيدًا للموسيقى في حد ذاتها.
وفي مطلع هذا العام، قام باتش كولبيرتسن، وهو مستكشف لدى شركة ريبابليك ريكوردز للإنتاج الصوتي، بإنشاء مكتب للشركة في نيويورك، ونظر في خريطة \”شازام\” على الأيفون الخاص به.

تعتبر ريبابليك ريكوردز هي الشركة الأكبر في مجال صناعة الموسيقى التي تعتمد بشكل شبه كلّي على الإحصائيات (ودليل على ذلك، أن أحد المستكشفين في شركة منافسة وصفَها بأنها المعيار الذهبي لاستخدام التحليل الإحصائي للبيانات في استكشاف المواهب والدعاية)، وكولبيرتسون على وجه الخصوص أثبت أنه يستحق بجدارةٍ أن يكون النجم الأول لدى الشركة.
أراد كولبرتسون أن يفحص إحصائيات سومو، وهو مغني آر أند بي (نوع من أنواع الموسيقى المعاصرة)، من مدينة دينيسون بولاية تكساس.

من الجدير بالذكر أن كولبيرتسون كان قد ساعد سومو على توقيع عقد في السنة الماضية.

فتح كولبيرتسون الخريطة وقام بالتقريب على مدينة فيكتوريا بولاية تكساس، وهي مدينة صغيرة تقع بين مدينتي كوربوس كريستي وهيوستن، وهي المدينة التي أذاعت فيها واحدة من محطات الراديو أغنيةً فردية لسومو تسمى \”Ride\”.

من المعروف أن إذاعة أغنية ما على الراديو في مدينة صغيرة كهذه، لا يؤثر على نجاح الأغنية بشكل عام، فقد كان كولبرتسون فقط ينظر إلى فيكتوريا كعينة لمعرفة ما إذا كانت الأغنية ستلقى صداها عند المستمعين أم لا، لكنه صرح فيما بعد: \”اكتشفت أن أغنية \”رايد\” Ride هي الأغنية الأكثر انتشارًا في مدينة فيكتوريا\”.
منذ أن صارت موسيقى البوب \”تجارة\” ترتبط ارتباطًا وثيقًا بوجدان الجماهير، بات محتمًا على من يريد التنبؤ بنوعية الأعمال التي ستلقى نجاحًا في المستقبل أن يكون منغمسًا في وسط الحشود، يحلل تفاعلهم واندماجهم مع حفلة لفرقة موسيقية. هذا كان من قبل، لكن الآن صار بالحري على المغنيين أن يحفروا أسماءهم على \”تويتر\” بدلًا من أن يجنوا شهرة في أحد نوادي \”ناشفيل\” (مدينة تشتهر بالموسيقى)، لذا يرى كولبيرتسون أن المقعد أمام جهاز الكمبيوتر لديه هو أفضل مقعد بالمنزل.
وقريبًا سيكون هناك من الأدوات ما يستطيع فعليًا تقليل أهمية سماع وتقييم أداء المطربين.

نيكست بيج ساوند Next Big Sound، وهي شركة تحليل وإحصاء موسيقى، بدأت في نيويورك منذ خمسة أعوام، تقوم بمسح شامل للإنترنت، ومتابعة مستمعي سبوتيفاي SPOTIFY، وإشارات إنستجرام، وعلامات أخرى خلال التجمعات البشرية على الإنترنت كل هذا للتنبؤ بالأعمال الصاعدة القادمة.

تقوم هذه الشركة بفرز ما يقرب من نصف مليون عمل فني جديد، خلال دالة معينة لإنشاء قائمة تضم مائة من النجوم المرتقب صعودهم ونجاحهم خلال السنة القادمة.
\”إذا تعاقدت مع المائة فنان الذين تضمهم قائمتنا، فسوف ترى عشرين منهم ضمن قائمة أفضل 200 ألبوم موسيقى في الولايات المتحدة الذي تصدره مجلة بيلبورد (Billboard 200)\”، هكذا تحدثت فيكتوريا هيو، أخصائية تحليل البيانات في شركة نيكست بيج ساوند.
قد تبدو لك نسبة عشرين بالمائة للنجاح معدلًا قليلًا، لكنها ستبدو كبيرة حين تتسع رؤيتك لتبحث في عالم الموسيقى الجديدة الشاسع، عن بيونسيه أخرى على سبيل المثال.
في العام الماضي، قدمت الشركة أداة بحث جديدة، تساعد المستكشفين في العثور على الفنانين الذين يضعون خطاهم الأولى نحو النجومية، وذلك عن طريق إحصاء عدد المتابعات السنوية التي يحصلون عليها. فعلى سبيل المثال، إذا أردت البحث عن فرقة مغمورة استطاعت أن تحصل على أكبر معدل لزيادة المتابعات على موقع تويتر، فستساعدك هذه الأداة على فعل ذلك في بضع ثوانٍ.
من الجدير بالذكر أن هناك نسبة واحد بالمائة من المطربين والفرق الموسيقي التي تتربع على القمة، وهذه النسبة الضئيلة تحقق أرباح تعادل 77 بالمائة من إجمالي عوائد الموسيقى المسجلة.
وباستمرار البحث ومحاولة تطوير الشركة لنظام تحليل البيانات لديها، وجدت أن بعضَ المعايير لا يُعوَّل عليها في متابعة مسار نجاح فرقة ما، كعدد إعجابات الفايسبوك، بينما البعض الآخر له قدرة تنبؤية خارقة كإذاعة الراديو، فهي \”الشيء الأكثر أهمية\” كما تقول هيو، حيث تعتبر من أهم وسائل تقديم أغنية جديدة للمستمعين،
فبمجرد أن تتردد على مسامعهم عدة مرات على الراديو، يبدأ المستمتعون في الإعجاب بها أكثر.

تقول هيو: \”اكتشفنا أيضًا أن معدل تصفح صفحات الفرق الموسيقية على ويكيبيديا هو ثاني أفضل مؤشر للتنبؤ بصعودها\”، حيث تؤدي عمليات البحث على ويكيبيديا نفس الغرض الذي تؤديه نظيراتها في شازام، ذلك لأن إذاعة أغنية ما على الراديو تضمن أنه تم سماعها بواسطة الجمهور، بعدها يخبرك شازام أو ويكيبيديا ما إذا كان الجمهور يرغب في الاستماع إلى المزيد أو معرفة المزيد عن تلك الفرقة أم لا.
يواجه منتجو الموسيقى معضلة صعبة حين يكونون بصدد إذاعة أغانيهم على الراديو، فكيف يراهنوا على نجاح الأغنية إذا لم يكن أحد قد سمعها؟ كيف يضمنون نسبيًا ردود أفعال المستمعين تجاه الأغنية؟ خصوصًا أنه من الصعب إقناع مسئولي محطات الراديو بإذاعة أغنية غير مألوفة، لأنهم يعتقدون أن الجمهور ينبذ كل ما هو غير تقليدي عادةً.

في الماضي، كان المنتجون يقومون برشوة موظفي محطات الراديو كي يعطوا أولوية لأغانيهم في قوائم الإذاعة. في بعض الأحيان، كانت الأغاني تنجح لأن منتجيها قرروا لها أن تنجح وشرعوا في كل ما يساعد على تحقيق ذلك.
ولكن الراديو هو الآخر يعتمد على البيانات، حيث يجب على المنتجين حين يتقدمون إلى محطة إذاعية أن يصطحبوا دائمًا جداول البيانات في أيديهم.

قد اصبح التنبؤ بنجاح الأغاني أمرًا أكثر صعوبة، فلم يعد كافيًا الاعتماد على بيانات الراديو، أو إحصائيات المبيعات، أو مشاهدات اليوتيوب أو تفاعلات فايسبوك أو حتى استطلاعات الرأي، فلكي تقنع محطة راديو رئيسية بإذاعة أغنية جديدة لك، عليك أن تصل بين كل تلك النقاط السابقة.
\”فكرة أن مسئولي محطات الراديو يقومون بإذاعة الأغاني فقط لأنها تنال إعجابهم صارت فلكلورية جدًا\”، يقول رادا سوبرامانيام، نائب الرئيس التنفيذي لقسم الأبحاث وفي شركة (اي هارت ميديا) iHeartMedia والتي تعد من أكبر ملّاك محطات الراديو في الولايات المتحدة.

تقوم هذه الشركة باستشارة بعض الكيانات مثل شازام عن الأغاني التي على وشك الصعود، بينما تقوم شركة نيلسن أوديو Neilsen Audio -والتي عقدت شراكة مع آي هارت ميديا مؤخرًا- بدفع المال أو كروت الهدايا لعدد من الأشخاص في مقابل أن يرتدوا جهازًا يسمى (المؤشر المحمول) والذي يتابع محطات الراديو التي يقوم الناس بالاستماع إليها على مدار فترة استماعهم للراديو بشكل عام.

جدير بالذكر أن آي هارت ميديا، تقوم باستطلاعات رأي أسبوعية على عينة تعادل مليون ونصف من الجمهور.
قد يكون النظير الأكثر أهمية لشركة آي هارت ميديا في توقع أغاني البوب الأكثر نجاحًا هو أداة عمرها 12 عامًا تسمى (hitpredictor) أو المتنبئ، وهي اسم على مسمّى، حيث توقعت 48 أغنية جاءت ضمن الأغاني الخمسين الأكثر نجاحًا العام الماضي.

قبل أن تظهر أغنية ما على الخريطة الرئيسية، يقوم المتنبئ بإحصاء معدلات التفاعل مع الأغاني على قاعدة البيانات الخاصة به، ويعطي لكل أغنية درجة قياسية، حيث تعتبر الأغاني التي تحصل على ما فوق 65 درجة هي انطلاقات محتملة، ولكن هذا لا يعني أن الأغاني التي تحصل على أعلى درجة ستكون حتمًا هي الأفضل في السوق.

على سبيل المثال، حصلت أغنية ميجان تراينور (All About That Bass) على 68.97 نقطة فقط ولكننا نراها جاءت في صدارة الأغاني هذا الخريف.
يقوم المنتجون وشركات التحليل والإحصاء بكل هذه العمليات على الأرقام، لاستخلاص العصارة المزاجية لدى المستمعين.

يقول چاي فرانك، المالك والمدير التنفيذي لشركة ديج سين DigSin للتسجيلات: \”إن الأمر لا يتعلق بإقصاء العنصر البشري من الراديو، بل يهدف إلى تقديم صورة بشرية خالصة، ألا وهي تفاعل الجمهور بشكل أوضح من ذي قبل\”.

من الجدير بالذكر أن شركة ديج سين DigSin تقوم في الأساس على بيع الموسيقى عن طريق تنزيلات الإنترنت مباشرة من دون اسطوانات.

هناك انتفاضة أخرى حدثت في إحصائيات الموسيقى، لنأخذ على سبيل المثال قائمة بيلبورد لأفضل 100 أغنية والتي تصدرها المجلة من العام 1958، على مدار عقود، ظلت هذه القائمة تعتمد كليًا على سجلات محلات البيع، ومحطات الراديو لتحديد الأغاني الأكثر مبيعًا واستماعًا. ولكن كلًا من الجانبين اعتاد الكذب، لأسباب عدة، منها أن شركات الانتاج كانت تقوم برشوة الطرفين لإعطاء إحصائيات مغايرة للواقع، أو لأن متاجر الاسطوانات لم تكن ترغب في الإعلان عن نجاح الألبومات التي لم تعد تبيعها. وبالتالي تصبح العملية بأكملها متحيزة لشيء واحد، وهو رغبة شركات الانتاج والمتاجر في مرور الأغاني بسرعة على جداول الإحصاء والتقييمات كي يتمكنوا من بيع المنتجات الجديدة.
تشكل قائمة المائة الأفضل أهمية كبيرة، ليس لكونها تعكس تفضيلات المستمعين فقط، بل لأنها تساهم في تشكيلها أيضًا. وفي دراسة رائدة عام 2006 على تأثير تقييم الأغاني على شعبيتها (مثل قائمة بيلبورد)، أوضح ثلاثة باحثين من جامعة كولومبيا أن شعبية الأغاني هي نبوءة قادرة على تحقيق ذاتها. قام الباحثون باستخدام بعض المشاركين في البحث، حيث كان عليهم أن يتصفحوا عشرات المواقع التي تمكنهم من استماع وتنزيل أغانيهم المفضلة، بعض من تلك المواقع تقوم بعرض قائمة الأغاني الأكثر تنزيلًا، والبعض الآخر لا يتيح هذه الخاصية، وُجِدَ أن المشاركين اطلعوا على المواقع الأولى-التي تعرض الأغاني المفضلة- كانوا يميلون إلى سماع الأغاني الأكثر شعبية.
بعدها فكر الباحثون في فكرة تكميلية للبحث: ماذا لو قاموا بتلفيق الترتيب الخاص بالأغاني من حيث الشهرة! في التجربة التكميلية قامت بعض المواقع بعرض التعداد الحقيقي للتنزيلات، بينما عرض البعض الآخر ترتيبًا معكوسًا للشعبية بحيث جاءت الأغاني الأقل شعبية في صدارة الترتيب. جاء هذا الترتيب الملفق ليقلب موازين المستمعين، حيث الأغاني المغمورة طفت على سطح الشهرة، والأغاني المشهورة بالفعل تم تجاهلها. الأمر ببساطة هو أن إيماننا المسبق-حتى وإن كان خاطئًا- بأن أغنية ما مشهورة يجعلنا نميل إلى الإعجاب بها وتنزيلها أو شرائها.
في العام 1991 قامت مجلة بيلبورد باستبدال نظام التقييم لديها، الذي كان مجرد ترتيبًا جامدًا لشهرة الأغاني، حيث جعلت الأساس في إحصاءاتها هو البيانات القادمة من نقاط البيع نفسها تبعًا لتسجيل النقود المدفوعة في عملية البيع.
يقول سيلفيو بيترولونجو، مدير قسم الخرائط في بيلبورد \”كان هذا عملًا ثوريًا، فأخيرًا أصبح بإمكاننا معرفة التسجيلات التي تباع فعلًا\”. وفي نفس الوقت قامت بتكليف شركة نيلسن اوديو –السابق ذكرها- بتولي مراقبة إحصائيات إذاعة الراديو.
وعندما حدث هذا، بدأ الهيب هوب والكونتري country في الصعود، بينما أخذ الطراز القديم من الروك في الخفوت، وهذا قد يكون سبببه أن الرجال البيض الساحليين، يهيمنون على صناعة الموسيقى، وهم لا يأبهون باهتمامات الأقليات الحضرية في الموسيقى ولا بما يفضله سكان الجنوب.
ولكن علينا أن نأخذ في الاعتبار هذا التغير الكبير في المشهد، بعدما بدأت بيلبورد متابعة معدلات استماع وتنزيل الأغاني، بعض تلك الأغاني التي لم تقع عليها أعين المنتجين، مثل أغنية (My Humps) لفرقة الهيب هوب الأمريكية ذا بلاك آيد بيز The Black Eyed Peas، أخذت تتفوق على بعض الأغاني التي توقع المنتجون نجاحها. اعتمد نجاح بعض الأغاني كليًا على إعجاب الجمهور.
بالطبع معظمنا يعرف أغنية \”سلم إلى السماء\” Stairway To Heaven لفريق لد زبلين Led Zeppelin وهي واحدة من أشهر أغاني الروك على مدار التاريخ، لا يوجد دليل بين أيدينا على أنه تم إذاعة هذه الأغنية في الراديو في السنوات التي تلت صدورها مباشرة، ولم تكن أبدًا ضمن قائمة أفضل مائة أغنية، ولكن بفضل قدرة الشركات الآن على متابعة ما يستمع إليه الجمهور، بإمكان أي أغنية قديمة أن تصبح في الصدارة إذا علقت في ذهن الجمهور وحققت أرقامًا تؤهلها لذلك.
في خلال لقاءاتي مع متخصصين عدة من مديري محطات الراديو، ومحللين وصحفيين، جميعهم اتفق مع نظرية چاي فرانك والتي تقول بأن المستهلك أصبح بين يديه الآن أكثر من جميع ما استمع إليه في العقود السالفة، التي تشكل فيها ذوقه على يد صناع الأغاني حينئذ. وهنا يكمن لب القضية: أنه عندما تعطي للناس أشكالًا أكثر مما ينبغي، سيحتفظون بالدوران في حلقة مفرغة من الأغاني الاعتيادية المألوفة على آذانهم، حيث يكرسون للموسيقى المُعادة، والمنحوتة والتي لا يتوانى الناس عن تشغيلها.
والآن بعدما صار ترتيب بيلبورد أكثر دقة في توضيح ما يقوم الناس بسماعه وشرائه من الموسيقى، أصبحت الأغاني تمكث وقتًا أطول على خرائط الإحصاء والتحليل. إذا تتبعنا تاريخ العشر أغاني التي قضت أطول وقتًا على قائمة أفضل مائة أغنية، سنجد أن جميعهم صدر بعد عام 1991، وهو العام الذي بدأت بيلبورد فيه باستخدام تقنية تعداد المبيعات من نقاط البيع نفسها، من بين تلك الأغاني العشرة، سبع اغنيات صدروا بعدما تضمنت قائمة أفضل مائة أغنية بيانات المبيعات الرقمية عام 2005.
يقول بيترولونجو \” من الواضح أننا عادة ما نريد أن نكرر سماع نفس الأغنية مرارًا وتكرارًا\”.
ولأن الأغاني الأكثر شهرة صار عمرها أطول على قوائم الترتيب، تضخمت القيمة النسبية للأغاني الشهيرة، حيث صارت نسبة واحد بالمائة من المغنين والفرق التي تتربع على القمة يحصدون أرباحًا تعادل 77 بالمائة من عائدات جميع الأعمال الموسيقية المسجلة، بحسب تقرير لباحثين في وسائل الإعلام. وبالرغم من أن المبيعات الرقمية للموسيقى ازدهرت مؤخرًا، إلا أن سيطرة العشرة أغاني الأفضل مبيعًا على السوق ازدادت بنسبة 82 بالمائة خلال العشر سنوات الماضية. ساهمت التكنولوجيا في تسهيل صناعة الموسيقى، حيث نرى كثيرًا من المطربين نوعية \”افعلها بنفسك\” أو الفرق المستقلة، التي تعتمد على أقل الإمكانيات في صناعة الموسيقى، قد يكون لهذا أثر في زيادة مساحة القاعدة الموسيقية الحالية، ولكن قمة الهرم لازالت محتفظة بهيمنتها، بل تأخذ في التوحش أكثر.
حاليًا تقوم محطات الراديو بالتوغل أكثر في حقول التكرار، حيث يوضح تقرير خاص بـأي هارت ميديا iHeartMedia، أن أشهر أربعين محطة راديو قاموا بإذاعة أشهر 10 أغاني بمعدل يساوي ضعف المعدل الذي كانت الأغاني في تلك المرتبة تذاع به في العقد السابق.

تمت إذاعة الأغنية الأشهر في عام 2013 (blurred lines-Robin Thicke) بمعدل 70 بالمائة أكثر من الذي أُذيعت به الأغنية الأشهر في عام 2003 (When I’m Gone- 3 Doors Down).

حتى الأغنية التي احتلت المرتبة الخامسة في عام 2013 (Ho Hey- The Lumineers) تمت إذاعتها بمعدل 30 بالمائة أكثر من أي أغنية صدرت في العشر سنين السابقة لها.
قد يؤدي الاعتماد على البيانات إلى تكتل الأذواق وترسيخ النمطية والرتابة في موسيقى البوب.
لسنا نحن فقط من نكرر سماع نفس الأغاني، بل الأغاني نفسها اعتادت أن تكرر نفس النمط والمضمون والأصوات صارت متقاربة بشكل كبير. ذلك أن شركات الانتاج بعدما تدربت بمهارة على توقع ما سيحقق نجاحًا، شرعت بسرعة في الاستثمار في الأعمال التقليدية. وهذا هو الذي ولد مخاوف لدى من تحدثت لديهم من صنّاع الموسيقى حول تأدية الاعتماد على البيانات إلى النمطية والتكرار في موسيقى البوب.
في عام 2012 أصدر مجلس البحوث الوطني الأسباني تقريرًا أرضَى المهتمين بأمر الموسيقى حول العالم. على ما يبدو أن موسيقى البوب كانت تنمو صاخبة وغير احترافية، ومتوقعة، مع إعادة التدوير ذاتها لنفس المقامات مرارًا وتكرارًا.
أوضحت الدراسة –التي تمت على 464، 411 تسجيلًا مشهورًا حول العالم مابين العامين 1955 و2010- أن الموسيقى الأكثر استماعًا في الألفية الثالثة تظهر بشكل واضح أن التنوع في التنقل بين الطبقات الصوتية صار أقل بكثير مما كان في العقود الماضية. استخلص الباحثون أيضًا أن الموسيقى القديمة بإمكاكنها أن تٌبعث من جديد حية وعصرية فقط بتجديد الأجهزة والآلات وزيادة درجة الصخب.
لا تكمن المشكلة في نجوم البوب لدينا، بل في عقولنا التي تعلق دائمًا بالألحان التي نعرفها بالفعل. يقول ديفيد هورون، المختص بمجال الموسيقى في جامعة اوهايو، أن قرابة 90 بالمائة من الوقت الذي نستغرقه في سماع الموسيقى نسعى فيه لسماع الأغاني التي سمعناها من قبل. ذلك لأنه يسهل على عقلنا التعامل مع المألوف لديه، وهو ما يستغرق مجهودًا أقل للتفكير بشأنه، سواء كان أغنية أو لوحة أو فكرة: كلما كانت مألوفة أكثر كلما صارت محببة لدينا. وهذا يسمى في علم النفس بالـطلاقة، ومعناه أنه إذا هضم عقلنا بعض المعلومات بشكل فصيح وطليق، كلما انزلقت بأناقة في ميزان توقعاتنا، حيث تعود علينا بالشعور بالثقة والارتياح.
\”الأشياء المألوفة مريحة دائمًا، وبشكل خاص عندما تكون قلقًا\” يقول نوربرت شوارتز، أستاذ علم النفس في جامعة جنوب كاليفورنيا، حيث يكمل حديثه قائلًا \”عندما يتعكر مزاجك، تسعى لرؤية اصدقائك القدامى، لأن تأكل طعامًا خفيفًا، وأنا أعتقد أن هذا ينطبق فعليًا على الاستهلاك الفني، فحينما يكون الشخص مشدودًا لا يسعى أبدًا لرؤية فيلم جديد أو سماع مقطوعة موسيقي صعبة، ببساطة شديدة هو يسعى إلى القديم والمألوف\”.
سيكون من التبسيط المفرط الإقرار بأن الموسيقى تتجه في مسار واحد نحو الصخب والرتابة التي لموسيقى البوب. فالآن نرى بعض الشركات التي أدركت شعبية الهيب هوب والكونتري، قامت بتطوير بعض الهجائن من هذه الأنواع ودمجها بموسيقى البوب التقليدية، على سبيل المثال، واحدة من أشهر الأغاني في الصيف الماضي \”problem\” تضمنت رباط ساكس خفيف، وصوت كأصوات البوب في التسعينيات، وكورس خافت، مع مقطع راب بصوت أنثوي. كان ذلك غريبًا جدًا، وحقيقيًا أيضًا.
تقول جريتا هسو-الاستاذ المساعد في جامعة كاليفورنيا بديفس، والتي قامت بأبحاث على \”تهجين الأنواع الموسيقية\” في هوليود- أنه بالرغم من كونه محفوفًا بالمغامرة والخطر إلا أنه قد يصنع نجاحًا صارخًا حيث أن الهدف منه هو دمج جماهير الأنواع المختلفة ليتفقوا على أغنية واحدة، طالما كانت مألوفة بالنسبة لهم.
إذا كنت من محبي الموسيقى، يمكنك الاطمئنان قليلًا إلى حقيقة أن إعصار \”البيانات\” لم يجتاح عملية تأليف الأغاني بشكل كامل، بالطبع يولي المخرجون والفنانون اهتمامًا إلى التوجهات الشائعة Trends ولكنهم ليسوا غارقين في أوراق جداول البيانات مثل شركات الانتاج.
وأما عن عدم تمكن الميكنة من غزو حجرة التسجيل بالكامل فقد يكون سبب هذا أن الجمهور يفضل أن تكون الإيقاعات مضطربة بمهارة. وجدت دراسة في جامعة هارفارد عام 2011 أن الإيقاعات المعزوفة آليًا تسببًا إزعاجًا للأذن لكونها دقيقة للغاية. يقول هولجر هينيج، الباحث في هارفارد والذي قام بعمل الدراسة \”هناك شيء ما فريد عن الطريقة غير المثالية التي يلعب بها الانسان الآلات الإيقاعية\”
يمكننا الوصول لتسجيلات هائلة من الموسيقى عبر الانترنت- بعضها مشتق، لكن كثيرًا منها اختباري وعبقري. عبر خدمات البث مثل سبوتيفاي Spotify، وباندورا Pandora يمكننا أخذ عينة من المكتبات الموسيقي التي لم تكن لتستوعب في أكبر متاجر التسجيلات في العالم. هذه الخدمات ليست تحوي فقط على كمية هائلة من الموسيقى، لكنها أيضًا تتيح البحث والخصوصية في ترشيح الموسيقى التي تناسب المستمعين. يقول إريك بيشك، كبير العلماء في شركة باندورا \”هناك شيء ليس واضحًا للعامة عن باندورا، وهو أنه لا يحتوي على خوارزمية واحدة، بل عشرات الخوارزميات التي تربط الناس بالموسيقى بطرق مختلفة، عن طريق تحديد النوع المفضل، أو الشعبية، أو التكرار. بعدها يكون لدينا خوارزمية عليا تقوم بتوجيه جميع الخوارزميات بشكل فريد، كالمايسترو الذي يقود الاوركسترا لتعزف سيمفونية لشخص واحد\”.
ومع كل هذه الوسائل والطرق التي قد نصل بها إلى ما نريد من الموسيقى، لازالت قائمة \”أفضل أغاني اليوم\” Today’s Top Hits تحتل المركز الأول في التشغيل على سبوتيفاي، والمحطة الأكثر شهرة على باندورا هي \”أغاني اليوم\”.

حتى ولو توفر لدينا عالم من الموسيقى، معظمنا يفضل سماع ما يعتقد أن جميع الناس يسمعونه.

رابط المقال الأصلي (بالإنجليزية): هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top