هذا المقال مقتبس من أول ما نُشِر ضمن سلسلة منشورات يقدمها منتدى التحولات الديموقراطية بمعهد «ليجاتوم» البريطاني حول سياسة المعلومات في القرن الواحد والعشرين. المترجم: يوسف أبو عالية
ما أتعس الدعائي الضعيف! حين نعود إلى القرن العشرين نجدُ أن السيطرة على الأفئدة والعقول في بلدٍ استبدادي كانت أيسرَ بكثير، فقد كان ممكنا توجيه كل وسائل الإعلام المحلية من داخل مكتب حكومي، ووسائل الإعلام الأجنبية كان يُمكِنُ التشويشُ عليها، الحدود كانت مغلقة، وشعبُك لم يكن باستطاعتِه أن يشهد أية نجاحات لنظام منافس، كان لديك سردٌ واضحٌ مصحوبا على الأقل برؤية جذابة نظريا إزاء العدالة الاجتماعية أو التفوق القومي إلى الحد الكافي لدرء فتن الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، وكل من يختلف كان يمكن عزله وإسكاته وقمعه.
كانت تلك هي الأيام الذهبية لما يسميه الصينيون بـ «عمل الفكر»، وما أسماهُ السوفييت بـ «هندسةِ النفسِ البشرية»، وبدتْ، حتى وقت قريب، ويكأنها اختفت إلى الأبد، إذ كان المفترض من الهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر المحمولة (اللابتوب) المنتشرة اليوم أن يكون أي مواطن بمثابة المركز الإعلامي الصغير الخاص بنفسه، والحدود أكثر انفتاحا، الأفلام والسيارات ومحركات البحث الغربية تتغلغل في كل مكان تقريبا، وكل الأنظمة تجرب، على الأقل، نسخة ما من الرأسمالية، الأمر الذي يعني نظريا أن يكون بين الجميع كثيرٌ من القواسمِ المشتركة.
بيد أن القصة بعيدة عن الوضوح، إذا لم تتخل الأنظمة الديمقراطية غير الليبرالية والأنظمة السلطوية الجديدة والأنظمة \”الهجينة\” في دول مثل فنزويلا وتركيا والصين وسوريا وروسيا عن «البروباجندا» بعد، فلقد وجدتْ طرقًا جديدة تماما للسعي إلى تحقيقها، وأنظمة كثيرة منها توظف التقنيات التي اختُرِعَت في العالم الديمقراطي نفسه، فلماذا تحارب عصر المعلومات والعولمة ما دام بإمكانك استخدامهما؟
غالبا ما تكون الأساليب ماكرة حقا، إذ بعد تحليل الرقابة الفورية المفروضة على 1382 موقعا إليكترونيا صينيا خلال النصف الأول من عام 2011 -بواقع إجمالي 11,382,221 مشاركة، وجد الباحثون بجامعة هارفارد أن الدعائيين الحكوميين كانوا يتسامحون فعليا مع نقد الساسة والسياسات، لكنهم فرضوا الرقابة على أية محاولات -عبر الإنترنت- لتنظيم احتجاجات جماعية، بما فيها بعض الاحتجاجات غير الناقدة للنظام بالضرورة، إحدى الفاعليات التي خضعت لتلك الرقابة الصارمة، على سبيل المثال، كان الهدف منها الإعراب عن المخاوف إزاء وصول التسرب النووي من اليابان إلى الصين.
أوضح ذلك التحليل أن الأولوية عند الحكومة ليست وقف كل الانتقادات، وإنما تقويض إمكانية التنظيم الذاتي للمجتمع، وتخلص الدراسة التابعة لجامعة هارفارد إلى حقيقة أن الصينيين \”أحرارٌ على المستوى الفردي، لكنهم على المستوى الجماعي مكبلون\”، لقد تحولت الإنترنت حقا إلى أداة مفيدة في السيطرة، إذ تمكن الشعوب من \”تنفيس بخار الغضب\” وتعطي الحكومة أيضا مؤشرا لقياس الرأي العام.
يمكن استخدام الانتخابات أيضا كأداة سلطوية، ففي فنزويلا كان هوجو تشافيز يجري الانتخابات في كثير من الأحيان دون أن تتمكن المعارضة، التي تفتقر إلى نفس مستوى التمويل والوصول إلى وسائل الإعلام، من المنافسة أبدا، وبلغ متوسط ساعات الظهور المباشر لتشافيز على وسائل الإعلام حوالي 40 ساعة أسبوعيا، بما يتضمن برنامج المنوعات الخاص به، واسمه «ألو، سيادة الرئيس»، الذي اعتيد إذاعته كل يوم أحد لعدد من الساعات حسب طلب تشافيز. وكان البرنامج يتيح لتشافيز -في مزيج بين جاي لينو وموسوليني- أن يشارك وجهات نظره حول كل شيء، بدءا من لعبة البيسبول، ومرورا بجورج دبليو بوش والرد على المكالمات الهاتفية من عامة الشعب وحتى مشاركة الحكايات الشخصية أو عزل الوزراء أو إعلان الحروب أو الغناء فجأة، وقد يظهر مشاهير عالميون مثل نعومي كامبل وداني جلوفر وشون بين في البرنامج ليمنحوا سطوة نجوميتهم إلى ماركة تشافيز التي يدعو من خلالها إلى ثورة اشتراكية دائمة.
وفي الوقت نفسه فإن تشافيز وخليفته نيكولاس مادورو \”يكسيان الرقابة في قفاز اليد الخفية\” لتكميم أفواه المعارضة، فبدلا من غلق وسائل الإعلام الناقدة، فإنهما يتأكدان فقط من كونها تفشل، يقول دانيل لانسبرج رودريجيز: \”أولا: يتم تنظيم وسائل الإعلام على أن تصبح عاجزة اقتصاديا عن المنافسة، فقد تُحرَم صحيفةٌ –مثلا- من أسعار الصرف المناسبة عند استيراد ورق الطباعة، وقد تُوقَع –بانتظام- غرامات على رأس مذيع ما بتهم البذاءة أو القذف الملفقة، ثانيا: حين تبدأ المؤسسة (الإعلامية) في الفشل، تظهر شركة وهمية، أحيانا مالكها مجهول، بشكل غامض وتعرض شراءها منها، بل وبسخاء، وثالثا: وعلى الرغم من من التأكيد المبدئي على أن الخط التحريري سيظل كما هو دون تغيير فإن الإدارة الجديدة سرعان ما ستبدأ في عزل الموظفين، وكذلك نقل التغطية حتى تصبح رسالتها كلها لا يمكن تمييزها عن آراء الحزب الحاكم التفاؤلية (البانجلوسية).
ثمة معادلة مشابهة تتشكل في تركيا، فقد نجح «رجب طيب إردوغان» أيضا ببراعة في دمج رأسمالية المحاسيب في إدارته السلطوية لوسائل الإعلام، فحسب المعلقة التركية «بيريفان اوروتش اوغلو» فإن الشركات المالكة لمؤسسات إعلامية متعاطفة مع الحكومة تفوز بعقود ضخمة من الدولة في القطاعات الأخرى، أما الشركات المالكة لوسائل الإعلام الناقدة للحكومة فإنها تخسر المناقصات الحكومية وتصبحُ هدفًا للفحصِ الضريبيِّ.
قد يكون من الصعب على المعارضين مقاومةُ هذه الدعاية، لا سيما وقد أصبح السردُ المناوئ بعيدَ المنالِ أكثر بكثير من ذي قبل، ففي القرن العشرين كان للرأسمالية الديمقراطية في الغرب ردٌ قويٌ على الشمولية السوفييتية: كالأسواقِ الحرة والثقافةِ الحرة والسياسةِ الحرة، فالمرسيدس والخدمات المصرفية التجارية وموسيقى «روك آند رول» والبرلمان كانت جميعا مسائل أكثر جاذبية من السيارات «اللادا» الروسية والخطة الخمسية وجوقة الجيش الأحمر والمكتب السياسي الروسي، لكن السلطويون الجدد اليومَ يقدمُون صفقةً جديدة: يمكنُكَ الحصول على مظاهرِ الحياة الغربية، مثل كل السيارات الألمانية وبرامج الواقع و«نعومي كامبل» والأسهم الممتازة التي ترغب بها، ولكن دون الحصول على الحريات السياسية الموجودة في الغرب، وطبعا مع احتقارك للغرب.
المثال الغريب لهذا، بشكل خاص، هم «الذئاب الليلية»، أو «ملائكة الجحيم» الروسيون الذين يرعاهم الكرملين، ممن كان لهم دور فعال في ضم شبة جزيرة القرم، إن «الذئاب الليلية» يستفيدون من البرودة المعتدلة في الغرب، فيتجولون بدرجات هارلي-ديفيدسون ويقيمون الحفلات الضخمة بصحبة موسيقى الهيفي-ميتال الألمانية، ويقدسون، في الوقت نفسه، ستالين وبوتين ويدعون علانية لإحياء الإمبراطورية الروسية، وعلى نفس المنوال يشير جاري راونسلي، أستاذ الدبلوماسية العامة بجامعة أبيريستوايث، إلى كيفية إطلاق الدعائيون الصينيون، الأقل (نبضا بالحياة!) رغم كونهم سلسين بنفس القدر في منهجهم الأيدولوجي، للرسائل المتناقضة عمدا، فالحزب \”الشيوعي\” الصيني اليوم يدافع عن كونفوشيوس وأيضا عن الثورة الثقافية، ويثني على الأسهم والأوراق المالية في شانغهاي جنبا إلى جنب مع الأغاني الماوية.
من الواضح أن التلقين الأيدولوجي البسيط لم يعد هو الهدف، ففي دراسة أجريت عام 2014 راقب هايفنج هوانج، الأستاذ المساعد بجامعة كاليفورنيا، التوجهات السياسية عند 1250 طالبا بواحدة من \”أكبر الجامعات الوطنية\” الصينية (لم ينشر إسمها لدواع أمنية)، أوضح البحث أنه بينما لا يعتقد الطلاب الذين يحضرون دورات «البروباجاندا» أن الحكومة \”جيدة\”، إلا أنهم يؤمنون بأنها قوية، ويحتج «هوانج» قائلا: «يمكن استخدام كمية كافية من الدعاية لإثبات قوة النظام في المحافظة على الضبط الاجتماعي والنظام السياسي»، ويصف هذه الدعاية بأنها شكل من (الإنذار) وليس (التلقين)، وأن المسألة هنا هي التخويف، وليس إقناع أي شخص بأية رسالة أيدولوجية.
شيء من هذا القبيل يسري في سوريا أيضا، ففي دراستها الكلاسيكية التي كانت بعنوان «السيطرة الغامضة» حاولت ليزا ويدين فهم لماذا ردد السوريون الذين عاشوا تحت حكم حافظ الأسد في التسعينيات بعضا من مزاعم النظام السخيفة بشكل فاضح، منها مثلا أن الأسد كان «الصيدلي الأعظم» في البلاد، واختتمت ويدين بأن الزيف كان هو القضية؛ إذ «تكمن قوة النظام في قدرته على فرض الخيالات القومية وجعل الناس يقولون ويفعلون ما لم يكونوا سيقولوه ويفعلوه لولا ذلك، هذا الرضوخ يجعل الناس متواطئين؛ فيوقعهم في علاقات هيمنة تفرض نفسها بنفسها».
ووفقا لأبيجيل فيلدينج-سميث، المراقبة للشؤون السورية منذ وقت بعيد والمراسلة السابقة للفايننشال تايمز، فإن بشار الأسد، خليفة حافظ الأسد، يسعى الآن إلى إعادة فرض نموذج التورطِ في الجريمةِ هذا، إذ بدأت الثورة ضد بشار في فبراير 2011 حين رسم مراهقون شعارات عن الربيع العربي على حائط بمدينة درعا، فبدا ردُّ فعلِ الأجهزة الأمنية، باعتقال المراهقين وتعذيبهم، مفرطًا، ولكنه كان اتباعا لمنطق النظام الذي يُطلب فيه من المواطنين التظاهر بولاء زائف، حتى لو كان سخيفا، وأي خرق في التعليمات يصبح تخريبا قويا.
واليوم يستمر التليفزيون السوري الرسمي في عرض موضوعات إيجابية لا تُصدق حول تقدم الدولة على الرغم من أن الجميع يعرفون بالحرب الأهلية المدمرة، سواء عن طريق الأصدقاء أو الأقارب المتواجدين على الجبهة، أو عن طريق الإنترنت والأقمار الصناعية والعديد من المصادر الإعلامية البديلة، لكن النظام، إلى حد كبير، لا يشعر بأي انزعاج إزاء تلك الحقيقة، ففي سبتمبر 2011 حاول التلفزيون السوري التشويش على ما تذيعه الجزيرة من تظاهرات في المدن السورية زاعما أن قطر أنشأت نسخا طبق الأصل والحجم الطبيعي من الميادين الرئيسية لتنظيم تظاهرات وهمية بها، والتي كان يجري تصويرها، حسب زعمه، على يد مخرجين فرنسيين وأمريكيين وإسرائيليين، فليس الهدف، وفقا لأحد الصحفيين السوريين، إقناع الناس بصحة تلك القصة الغريب، وإنما «الهدف إرباك الناس» ليجعل من الصعب عليهم تمييز ما هو حقيقي من ما هو مزيف.
الأسد ليس وحده من يفعل هذا، فقد أدرك الكثيرُ من السلطويين الجدد أنك لا تحتاج في القرن الواحد والعشرين إلى مراقبةِ المعلومات طوالَ الوقت، ولا تستطيع أن تفعل ذلك بأي حال من الأحوال، ولكن يمكنك اختلاق المعلومات التضليلية التي تكفي لإفساد الفضاء الإعلامي ومنع الناس من فهم ما يحدث، ففي تركيا أنشأ إردوغان أسرابا من البرامج ذاتية النشر على (تويتر) والتي تروج للمؤامرات، وأما الصينيون فلديهم ما يسمى بـ «حزب الخمسين سنتا»، وهو يضم كتَّابًا على الإنترنت يُدفَعُ لهم خمسون سنتا مقابل كل تعليقٍ مؤيدٍ للنظامِ ينشرونَه، بينما يستخدمُ الكرملين «مصنع الرسائل المضايقة» [أشبه باللجان الإلكترونية] لنشر الرسائل المؤيدة للكرملين وللافتراء على المنتقدين داخل روسيا وخارجها.
والنتيجة؟ احتلال منطقة البلطيق التي يتعرض فيها قطاع عريض من الأقليات الإثنية الروسية لحقائق مختلفة بشكل جذري من خلال الإعلام المحلي وإعلام الكرملين، وقد أوضح بحث أجرته مؤسسة (أوبن إستونيا) أن الروسيين العرقيين الذي يعيشون داخل البلد يكفرون –في نهاية المطاف- بالطرفين ويكافحون من أجل تكوين الآراء، أيا كان فإن الجمهور الروسي بمنطقة البلطيق يُوجّهون أكثر إلى مصادر إعلام الكرملين لأنها مسلية وأكثر عاطفية وتقدم لهم أوهاما منها، على سبيل المثال، قصص مختلقة عن أطفال صُلِبُوا على أيدي مسلحين أوكرانيين، وقال المشاركون في مجموعات نقاشية من بين الجمهور الإثني الروسي داخل لاتفيا أن الأخبار المعروضة على قنوات التلفزيون الروسي «جذابة عاطفيا، لأن بعض الأخبار التي تشاهدها تشبه فيلما ممتعا، لا تثق به ولكنك تشاهده بكل سرور».
وبعبارة أخرى لو أن هناك منافسة بين النسخ المختلفة للحقيقة فإن الطرف الأقل تقيُّدا بالحقيقة قد يصبح لديه فرصة أكبر في الانتصار، ولكن إذا كان الحال كذلك فإن الفرضية الكاملة التي بُني عليها الإعلام الحر إذن تعد مقوّضة.
لقد آمنا منذ وقت طويل أن المزيد من المعلومات تعني اتخاذ قرارات أفضل وديمقراطية أفضل، ولكن إذا بدأ طوفان التضليل فربما لن يستمر الأمر كذلك، وإننا نرى التوجه ذاته داخل دول مثل الولايات المتحدة حيث تتشرذم أطراف الطيف السياسي المختلفة إلى حقائق منفصلة تنتج تضليلا مثل قصص حول وجود «لجان موت» داخل برنامج الرعاية الصحية الذي يقدمه الديموقراطيون، أو أن الرئيس أوباما قد وُلد خارج الولايات المتحدة.
لقد تعلم المستبدون، أو الديموقراطيون غير الليبراليين، والدعائيون التابعون لهم -هذه الأيام- كيفية استخدام المظاهر التي ارتبطت مسبقا بالديموقراطية، كالانتخابات والإنترنت والصحافة والسوق، في تقويض الحريات، لقد تعلموا كيف يعرقلون القوة الناعمة للديمقراطية الحرة بعلاج أيديولوجي سلس، وهم يفعلون ذلك باستخدام أموال الغرب وتكنولوجياته، وفي حين يندد الاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية بالتضليل والعدوان والترويج للحرب على قنوات تلفزيون الكرملين، يجدر الوضع في الاعتبار أن هذه الشبكات تقف على قدميها بسبب الإيرادات التي تخلقها الإعلانات التجارية الغربية.
رابط المقال الأصلي – الفورين بوليسي: