ما هي ضوابط "الحرية الدينية"؟

إيميلي بيزلون
مجلة نيويورك تايم
7 يوليو 2015

ترجمة: يوسف أبو عالية
«لا أستطيع، إنها تخالف ديني»، يميل الأمريكيون إلى معالجة الاعتراضات الدينية، شخصيا وسياسيا، بحِرص، فمثلا حين يقول ضيف إنه لا يمكنه تناول الطعام المقدّم إليه لأنه ليس «حلالا» أو «كوشر» (موافق للشريعة اليهودية) فعادة ما يُسرع صاحبُ الضيافة إلى إيجاد أي بديل، وحين يقاوم الناسُ اتباعَ قانونٍ ما استنادًا إلى عقيدتهم، فقد تحاول الحكومة والمحاكم استيعابهم، إنه إرث أمريكي يعود تاريخيا إلى ما قبل التأسيس حين كانت بعض المستعمرات الأصلية تُتّخَذُ ملاذًا آمنا للمنشقين دينيا، وتحت راية العقيدة نالت جمعية الأصدقاء الدينية (كويكرز) وجماعة «المينوناتية» المسيحية، في القرن الثامن عشر، حق عدم الانضمام إلى الميليشيات الشعبية التي رعتها الدولة، إن أول المستنكفين الضميريين كانوا معارضين بوازع ديني، ومن هنالك اتسعت هذه الفئة لتشمل –بعد ذلك- المعارضين للحرب بوازع أخلاقي، ويسري الأمر ذاته على الطلاب الذين يتلقون تعليمًا منزليا، فأول من انتزع إذنا من المحكمة العليا لإخراج أطفاله من المدرسة عام 1972 كان أحد الآباء من جماعة الآميش الدينية، وليس أمًا من الهيبيز، وانتزعه على أساس تعاليم دينه التي تدعو إلى «حياةٍ بمعزل عن العالم» كما صاغها قضاة المحكمة وقتئذ باحترام.
لقد أصبح منحُ استثناءات من القانون للأشخاص المؤمنين جزء من التعريف الأمريكي للحرية الدينية، وجزء من روح «عش ودَعْ غيرك يعيش» الجماعية لدينا، وقد ساعدت أيضا في حفظ السلام داخل وطن متعدد اللغات، ففي فرنسا يُحظَر على المرأةِ المسلمة ارتداءُ غطاء الرأس في المدارس العامة، بينما في الولايات المتحدة يُحظَر على أي محل لبيع الملابس رفضُ توظيف امرأة مسلمة لمجرد أنها ارتدت غطاء الرأس أثناء إجرائها مقابلة التوظيف، وحين أصدرت المحكمة العليا في الشهر الماضي حكمها إزاء قضية «سامنثا العوف»، اتفق ثمانية قضاة من بين قضاة المحكمة التسع أن «سامنثا»، التي حُرمت من وظيفة بشركة «آبركرومبي كيدز» بسبب سياسة موسعة للشركة تمنع أغطية الرأس، كانت تطلب «معاملة استثنائية» تحق لها بمقتضى قانون العمل الفيدرالي، وقال القاضي «أنطونين سكاليا» أثناء نطق الحكم من على المنصة: «إن هذا أمرٌ سهلٌ حقًا».
لكننا قد وصلنا طريقًا مسدودًا ومؤسفًا إزاء تعريف الحرية الدينية، فعلى خلاف العصور السابقة حين كانت الاعتراضات الدينية تُمكِّن المؤمنين من الانعزال عن المؤسسات التي شعروا بأنهم لم يمكنهم دعمها، نجد اليوم العديد من المحافظين ينشرون نفس العبارة كذريعة لإقصاء الآخرين، تأمل الاحتجاج الغاضب الذي اندلع ردًا على قرار المحكمة العليا، الذي حُسم بخمسة أصوات فقط مقابل أربعة، بتقنين زواج المثليين في جميع الولايات، بدأ ظهور الأصوات المحافِظة المعارضة من خلال القضاة المعارضين: فقد حذر القاضي «كلارنس توماس» من «عواقب محتملة مدمرة للحرية الدينية»، وهرع بعضُ ذوي المناصب الجمهوريين إلى قذف أي درع يسعهم قذفه إلى أصحاب العقائد، فقد أعلنت ولايتان جواز امتناع الكتبة بالأقاليم عن إصدار تراخيص زواج إذا لم يرغبوا في إعطائها لمثلي الجنس باعتبارهم إياها مسألة ضمير، وقد نال الخبازون والمصوّرون وبائعو الزهور –وكذلك مؤسسات التبني وملاك العقارات، الذين يستشهدون بدينهم عند رفضهم خدمة المثليين، ضمانات تشبه تلك التي صدرت عن غريغ أبوت –حاكم ولاية تكساس- وفحواها أن «أي مواطن يعيش في تكساس لا يُلزمه قرار المحكمة العليا بفعل أي شيء يخالف اعتقاداته الدينية فيما يتعلق بمسألة الزواج».
يأمل المناهضون لزواج مثلي الجنس في الاستفادة من توسع الحريات الدينية مؤخرا ولكن في قضية كبيرة أخرى تتعلق للمعايير الجنسية المعاصرة، ففي حكمها الخلافي الذي حُسِم بفارق صوت وحيد الشهر الماضي منحت المحكمةُ العليا إحدى الشركات، وليس فقط الأفراد، حق إقامة اعتراض ديني على القانون، فحين رفضت سلسلة محلات هوبي لوبي، المملوكة لأشخاص إنجيليين، دفعَ تكلفة بعضَ وسائل تنظيم المواليد، التي يقتضيها قانون الرعاية الصحية ذي الكلفة المناسبة، إلى العاملات، احتج مالكو الشركة بأن تقديم تأمين صحي لتغطية اللوالب ووسائل منع الحمل في حالات الطوارئ يخالف معتقداتهم الإنجيلية، قائلين بأن تلك السبل تفضي إلى الإجهاض (حيث تصبح نافذة المفعول بعد الإخصاب)، لم يوجد لدى شركة هوبي لوبي سند علمي كافي لذلك الادعاء، بل وكان بإمكان إدارة أوباما، خلال دفاعهم عن الإلزام في دفع تكلفة وسائل منع الحمل، الاستشهاد بالرأي الطبي المجمع عليه بأن تقديم وسائل متنوعة لتنظيم المواليد يفيد المرأة صحيا، ولكن مع ذلك قضت المحكمة لصالح سلسلة متاجر هوبي لوبي وتفهمت حس الضمير الخاص بالشركة.
أدى قرارُ المحكمة إلى موجة عارمة من الغضب النسويّ، لكن محلات هوبي لوبي لم تتعرض لأية مقاطعة مستدامة، ولذلك كان من المدهش أن اصطدم ضغط آخر نحو الاعتراض الديني بحاجز من التنديد العلني في وقت سابق من هذا العام، فقد توقع مشرعو ولايتي إنديانا وأركنساس تمريرًا سهلا لإصداراتهم الخاصة من مشروع قانون يسمى (قانون استعادة الحرية الدينية)، وقد صدر أول قانون تحت هذا الإسم بإقرار الكونجرس عام 1993 بهوامش حزبية ضخمة، ومن أجل تحقيق التوازن أنشأ الحزبان، الجمهوري والديموقراطي، تجربةً لا تزال مفعلة، وهي: إذا اشتكى أي شخص من قانوني فيدرالي ما بدعوى أنه يمثل عبئًا كبيرا على حرية ممارسته لدينه، يجب على الحكومة حينئذ أن تبين أن لديها مصلحة اضطرارية تقتضي تطبيق ذلك القانون.
وكان مشروع القانون المقترح من قبل الحزبين الجمهوري والديمقراطي في ولايتي إنديانا وأركنساس أكثر توسعية، إذ كان من شأنه أن يتيح للناس والشركات رفع دعاوى متعلقة بالحرية الدينية ضد بعضهم بعضًا، بل وضد الحكومة أيضا،  لكن هذا التغيير لم يوضح لماذا اعتبرت ولايتا إنديانا وأركنساس أنهما في الطرف المستهدف من الحرب الثقافية، وإنما أوضحه السياق، إذ ظهرت مشاريع القوانين الجديدة المتعلقة بالحرية الدينية وكأنها درع للشركات التجارية التي لا تريد تقديم خدمات إلى الأزواج المثليين الذين نالوا حق الزواج مؤخرًا في إنديانا، وقد صرّح كريستال أوكونر، أحد مالكي (ميموريز بيتزا) الموجودة في بلدة (ولكرتون) بولاية (إنديانا)، إلى إحدى المحطات الإخبارية المحلية قائلا: \”إذا دخل زوجان مثليي الجنس وطلبا منا تقديم البيتزا إلى حفل زفافهما، وجب علينا أن نقول لا\”، وتحققت، في هذه المرة، المقاطعة وأغلقت ميموريز بيتزا أبوابها مؤقتًا (وجمع المؤيديون أيضًا أكثر من 800 ألف دولار نيابة عن المالكين)، وحين هددت الشركات الكبرى بسحب حصصها من إنديانا وأركنساس، تراجعت الولايتان وغيرتا مشاريع قوانين الحرية الدينية الخاصة بها.
وفي أعقاب حكم المحكمة العليا بشأن زواج مثليي الجنس، تتصاعد الاعتراضات الدينية على تقديم الخدمات إلى الأزواج مثليي الجنس في عدد أكبر من الولايات، ووفقا لمقال كتبه مؤخرا أستاذان للقانون، وهما ريفا سيجل من جامعة ييل ودوجلاس ني جيم من جامعة كاليفورنيا، فإن استدعاء الحرية الدينية بهذا الشكل يثير \”قلق خاصًا\” إزاء صراع اجتماعي طويل الأمد، ويشير الكاتبان إلى ما حدث بعد قضية \”رو ضد ويد\”، فبعد حكم المحكمة العليا بتقنين الإجهاض في جميع أنحاء البلاد، تعهد الكونجرس والمجالس التشريعية داخل الولايات بأنه يجوز لأي طبيب أو ممرضة أو أي أخصائي آخر يعمل بالرعاية الصحية رفض المشاركة في تقديم أي عملية إجهاض بوصفها مسألة ضمير، وعلى مدى عقود توسعت بنود الضمير هذه في بعض الولايات لتشمل الاستشارة والإحالة والخدمات الصيدلية بحيث تسمح لمن يدونون الروشيتات الطبية، مثلا، بممارسة شكل من أشكال الضبط الاجتماعي تحت دعوى حريتهم الدينية الخاصة.
ويحتج «سيجل» و«ني-جيم» بأن قوة الحركة المسيحية المحافظة تعززُ من قدرتها على الحط من شأن الآخرين، وتروي النساء اللاتي رُفِضَ تقديم خدمات الإجهاض لهن أنهن أحسسن بتعرضهن للأحكام الشخصية والإهانة، ويقول الأزواج المثليين، الذين رُفِضَ تقديم خدمات الزفاف إليهم، نفس الشيء، وقد أخبرني ستيف ساندرز، أستاذ القانون بجامعة إنديانا، قائلًا: «لقد باتت عبارة (الحرية الدينية) بمثابة تعويذة مبتذلة، ومعظم الدعوات التي ظهرت مؤخرا ليس بمقدورها فعل أي شيء حيال التعديات الفعلية على حرية التصرف، وإنما تتعلق جميعها فقط بالانشقاق الثقافي والسياسي عن حقوق المثليين».
كل هذا يقلق المؤيدين منذ وقت طويل للحرية الدينية، فلقد ساهم دوجلاس ليكوك، أستاذ القانون بجامعة فيرجينيا، في كتابة مشاريع قانون الحرية الدينية داخل الولايات وشجّع تلك التي أخفقت في إنديانا وأركنساس، ولكنه أطلق، في مقال كتبه العام الماضي، تحذيرا للقادة الإنجيليين فكتب: «من المخاطرة تدخلكم في أكثر التفاصيل حميمية في حياة الآخرين في نفس الوقت الذي تتذرعون فيه بأنها حريتكم الخاصة، إذا وقفتم في طريق ثورة وخسرتم فستكون هناك عواقب».
إن لِرفضِ تقديم الخدمات للزبائن تاريخٌ قبيح، فمنذ نصف قرن عقدت حركة الحقوق المدنية اعتصامات ضد التفرقة العنصرية داخل المطاعم للاحتجاج على قوانين جيم كرو، وقتئذ لم يستطع أحد أن يدّعي حقًا ممنوحًا من الله يُرفض بمقتضاه تقديم الخدمات للزبائن ذوي البشرة السوداء، وفي الجنوب أصبحت الأعمال التجارية العامة مفتوحة للجميع، أما اليوم، وتحت مسمى الحرية الدينية، فثمّة معارضة جنوبية فظّة لزواج مثليي الجنس، لكن المؤيدين يقولون أن القياسَ على استثناءاتِ قوانين (جيم كرو) قياسٌ غير ملائم، لأن الفصل العنصري لم يكن أبدًا أمرًا أساسيا في التعاليم المسيحية بنفس القدر الذي كان عليه الزواج التقليدي، ويشيرون بشكل صائب إلى أن القوانين الوطنية الصارمة تحمي من التمييز القائم على أساس العِرق وليس التمييز القائم على أساس التوجه الجنسي، وفي العديد من الولايات، بالجنوب وغيره، لا يحتاج مالك العقار أو الشركة أي سبب عقائدي خاص للاعتراض عن زبون أو مستأجر مثلي الجنس، إذ إنهم ببساطة أحرار في فعل ذلك.
وبالوضع في الاعتبار السرعة التي نما بها التأييد الشعبي لزواج المثليين، قد ينال المثليون حقوقًا أخرى ضد التمييز، ولكن ماذا عن منظمات الخدمة الاجتماعية والمدارس الدينية الخاصة؟ تنبأ رئيس المحكمة العليا جون روبرتس أثناء معارضته قرار زواج مثليي الجنسي بظهور «الأسئلة الصعبة» وقتئذ، مردفا «كأن توفر كلية دينية، على سبيل المثال، سكنا خاصًا للأزواج المثليين بمعزل عن غيرهم من المتزوجين، أو تتراجع مؤسسة تبنّي دينية عن إعطاء الأطفال للأزواج المثليين».
وفي مجلس الشيوخ ومجلس النواب هرع العشرات من الجمهوريين سريعا إلى التوقيع على مشروع قانون يحمي الإعفاء الضريبي لأية مؤسسة دينية في حالة كهذه وتمنع أي إجراء حكومي ضد أية مؤسسة تجارية ترفض تقديم خدماته إلى زوجين مثليين، وعلى جانبي المعركة هذه لم يعد التسامح أمرًا قابلا للطرح، يقول ليكوك –عبر اتصال هاتفي-: «يقول المقاومون ذوي النزعة الدينية (لا يهم أن تحصلا على حفل الزفاف بالشكل الذي تتمنياه، لأنكما لا ينبغي أن تتزوجا بأية حال)، بينما يجيب المثليون قائلين (لا يهم أن تنتهكوا حرمة ضمائركم، لأنكم إنما تتحدثون فقط إلى صديق وهمي)»، عندما تتصادم الحقوق والقيم الأساسية فغالبا ما يفوز البعض ويخسر الآخرون، ويصبح من الصعب العثور على التراحم، حتى لو كان التراحم نفسه هو الفعل التقي.

رابط المقال الأصلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top