\”نقاوم موتنا بالواقع، بالأمنيات، والحياة في الخيال\”، أستلم مصطفى الجرفي، النوبي الجميل، دفة الحديث من سالفه \”رأفت\” الذي توارى فضلا كما تعلم ببلاد العادات والتقاليد العظيمة التى طالما افتقدناها بمجتمعاتنا المتحضرة، ليفسح المجال لابن قريته حتى يزيد المستمعين من ما لديه من جمال يخنزنه عن بلاده السمراء.. النوبة، أثناء استقبالنا بها في محاولة من محاولات إحياء التراث النوبي.
مصطفى، شاب نحيف، نحيل كعود الزان، جميل ومتألم بذات الوقت، كالوردة المزدهرة النابتة فوق صخر، حينما يبتسم تفيض وجنتيه بالبهجة، تلمع أسنانه المتراصة داخل فمه كعيدان القصب التي يزرعون، يشير بيديه وهو يتكلم فتتراءى لك وكأنها \”شواشي نخل\”، يدخل قلبك كأقرانه من أهل النوبة دون تأشيرة، وكأنهم دواء يحمله الدم بجسدك في لحظات حتى يخفف عنك آلام يومك القاهري التي تحمل.
يؤكد \”الجرفي\” في بداية سرده لكواليس وطنه المفقود، أن العالم الخيالي الذين لازالوا يحلمون به هو أكسير الحياة لكل من ذاق التهجير من أجداده، ويضيف بأن الطبيعة هناك بمحاذاة النيل كانت خلابة، عكس ما يذوقون الآن، فلم يكن هناك أعمال حكومية برتابتها، ولا شغل يتم خارج حدود البلدة، فقد اعتمدت النوبة بشكل كلي على الزراعة وما يترتب عليها، فالمقايضة كانت هي العملة المصكوكة للتجارة، العطاء والتقديم كان بنكنوت يومهم، موضحا \”تديني تمر أديك لبن، تديني قمح أديك سكر\” ويبتلع مصطفى \”ريقه\” وكأنه يستطعم حلاوة المنتجات التي قال.
وكأنه جنديا يقدم التحية العسكرية، أخشوشن صوته وهو يأخذنا بالحديث عن النيل وأهميته وعظمته وشموخه، \”النيل كان كل شئ\”، واستوقفنا وهو يقول: \”العريس كان يزف للنيل\”، لم يقل في النيل أو من خلاله، وأنما \”للنيل\”، مبتسما، وهو يقول: \”كنا ناخد العريس ينزل النيل، بعد أن يخلع ثياب \”العزوبية\” القديمة، وينزل للمياه \”المقدسة\” مع أصدقائه، في فرحة ولهو، قبل أن يخرج منه مرتديا ثوب الفرح.
وبكل شموخ، ينتصب عود مصطفى، ليؤكد بأن النوبيين من أعرق وأكثر البشر الذين حافظوا على النيل، \”يتكى\” على الجملة، وهو يقول: \”النيل مازال مقدسا عندنا لحد النهاردة\”، قبل أن يعود للواقع المؤلم الذي يعيشونه بفضل التهجير فيقول متحسرا: \”دلوجتي بنغسل وش الطفل في الترعة!\” وتستشعر من نبرة صوته بتلك الكلمات كما لو أن أي مياه غير مياه شط النيل، ليست مياها.
ويختتم \”مصطفى\” وصفه للنيل الخالد، ويؤكد لنا مدى ارتباط أهل النوبة به، فيقول: \”كنا كمان بنصبح على بعض بمية النيل\”، فبدلا من أن تطرق باب جارك لتلقي التحية، كان كل دار يستيقظ \”ويرش ميه قدام بابه\” ليكتسي الشارع مياها، في مدلول بأن أهل القرية \”بيصبحوا على بعض\” وأن الجميع بخير، قبل أن يبتسم ويصمت لبرهة، وكأنه يتمنى أن يعودوا هناك، حيث ضفاف النيل، ويتركنا ونحن ناظرين إليه على يقين بأنه صمت ليناجي ربه من خلال \”أمنيات بتتقال للنيل\”.