قام عدد من شباب اليسار في تركيا باختطاف المدّعي العام التركي، وذلك يوم الثلاثاء 31 من مارس للعام الجاري، ليختتم أولئك الشباب شهر مارس بعدة رسائل لكافة الفصائل الموجودة على الساحة السياسية سواء في تركيا أو في أي دول أخرى.
وبما أننا نقول قولنا هذا من موقعنا هذا في مصر، فدعونا نتحدث من خلال الموقع السالف ذكره.
تبدأ القصة بخروج الآلاف من المواطنين الأتراك إلى الساحات والميادين العامة والهتاف ضد سياسات الحكومة الاقتصادية، بالإضافة إلى تطرّق نسبة كبيرة من المتظاهرين إلى الهتاف بسقوط الحكومة بعد فضائح فساد متتالية طالت عدد من الوزراء وذويهم.
تلك التظاهرات كانت قد قوبلت من قوات الأمن التركي بعنف مفرط أدى إلى إصابة المئات واعتقال مثلهم، وأثناء ذلك كان هناك طفل لا علاقة له بالأمر، صدمت رأسه قنبلة غاز ففقد وعيه وتم نقله للعلاج وهو في حالة خطرة ثم صعدت روحه إلى خالقها، في جريمة قتل عمد، ويمكن اعتبارها جريمة \”قتل خطأ\” في أكثر الأحوال ظلماً، أو \”ضرب أفضى إلى الموت\” في أكثر الأمثلة تواطئاً وعهراً.
إلا أن المدّعي العام في تركيا، والذي يعادل منصبه منصب النائب العام في مصر، لم يقدم للقضية أوراق ولم يستدع أحد ولم يفتح باب تحقيقات من الأساس، الأمر الذي استشاط من أجله الشباب غضباً وسخطاً وشعوراً بالعجز، وشعوراً بالمسئولية الكبيرة أيضاً عن دماء ذلك الطفل الذي قتلته قوّات أمن مجرمة وتستّر على جريمتهم المدّعي العام المتواطئ، وكان أكثر أولئك الشباب تنظيماً هم من تطوّعوا لاختطاف المدعي العام على سبيل ليّ ذراع الدولة والضغط عليها في سبيل تقديم القاتل إلى المحاكمة العادلة التي تخلّص الجميع من لعنة الدماء، وقد قرروا أنه بمجرد تقديم المتهم إلى المحاكمة سيسلّمون المدعي العام ويسلّمون أنفسهم أيضاً.
وها هنا رفضت الدولة أن تخضع لضغط الشباب رغم وجود مجني عليه وجاني، وقامت قوّات الأمن بالبحث والتحري حتى توصلت إلى مكان احتجاز الرجل واقتحمت المكان وقتلت كل من فيه من شباب.. نعم قتلت مزيدا من البشر الذين طالبوا بمحاكمة الذي قتل إنساناً. وهنا أيضاً – وفي وسط المقتولين – كان المدعي العام الذي لم يقتله الشباب الذين احتجزوه، وقتلته قوات الأمن التي لم تمارس في هذه القصة سوى القتل فقط، فقد قتلت الطفل وقتلت الشباب الذي اختطف المدعي العام وقتلت المدعي العام نفسه في مشهد أقرب للجملة الهزلية للفنان عادل إمام \”ثم مات المشاهدون جميعاً\”.
والآن أصبح لدينا –كمشاهدين- ثلاث جرائم قتل للشرطة في مقابل احتجاز مواطن قام به مجموعة من الشباب، وأصبح لدينا ثلاث جنازات منهم جنازة فخمة ومهيبة للمدعي العام، الذي قتلته قوات الأمن هو الآخر \”حتى لا ننسى\”.
وأصبح لدينا أيضاً كالمعتاد عدد لا نهائي من التنظيرات والتحليلات الرافضة لواقعة الاحتجاز والمؤيدة له.
ولدينا أيضاً رسائل لا نهائية لعل أبرزها ثلاث، الأولى للقائمين على منظومة العدالة والأمن في مصر، فأقصر الطرق لحماية المصلحة المشتركة بين المواطن والنظام هي العدالة والحق، وأسلم الوسائل لحماية الأنظمة –ذات النوايا الحسنة- هو العدل. لا ملام على اليائس من العدالة، بل اللوم – كل اللوم – على من غض الطرف وظلم سواء بصمته أو بمعاونته للمجرم وتبرئته.
العدالة تردع الظالم ومشاريع الظالمين، وتجنّب الجميع صراعاً لا فائدة منه سوى المزيد من الخسارة والاضطراب.
والثانية لمن يتخذون من أمثال النظام التركي سنداً وعوناً لما أسموه زوراً \”نضالا\”.. من يتحدثون من منابرهم ويحصلون على أموال منهم في مقابل قول كلمة ضد فساد فلان وإجرام علّان، وهم في الأساس يقفون على أرض مليئة بالفساد والظلم والدماء.. هؤلاء الذين صدّقوا دموع الممثل الفاشل أردوغان في أغسطس 2013، والذين إلى يومنا هذا يصفونه بالزعيم والعظيم وكل تلك العبارات الخرقاء التي لو لم يُدفع لقاءها أموال ليقولها فهو إما مختل أو موافق على الإجرام.
والثالثة هي للرفاق هنا، في مصر، والذين يعلنون رفضهم لتلك الواقعة –واقعة الاختطاف بالتأكيد- ويستنكرونها واصفين إياها بـ \”الإرهاب الفردي\”، بحجّة أنها ستفتح مجالات جديدة للنظام هناك لقمع التظاهرات والاحتجاجات، وكأن النظام التركي كان ينتظر الذريعة لممارسة العنف المفرط والقتل ثم القتل رداً على رفض القتل، وكأنهم اتخذوا موقف من يلوم الضحية دائماً من أبناء مدرسة \”إيه اللي وداها هناك؟\”، وكأنهم أيضاً قد هبطت الحكمة على رؤوسهم ونطقت ألسنتهم بالوحي وقرروا أن التصرفات الرعناء ستجلب المزيد من العنف والخسارة، حتى ولو كانت تلك التصرفات هي نصرة للحق ولم تؤذ إنساناً.
إن مثل تلك الأحداث المؤلمة في أي مكان في العالم، تحمل دائماً رسائل للجميع بلا استثناء، وتضع الجميع أمام فوّهة بندقية التناقض الذي نسقط فيه كثيراً، وفي كل مرّة يخسر الكثيرون درساً مهماً بتغافلهم عن مواجهة أنفسهم بدلاً من الغرق في تلفيق الموقف ليأتي بمقاس أفكارهم التي لن يراجعوا حرفاً بها، ويا ليتهم يراجعون.