لم ينتج الخلاف السياسي في مصر، إلا بضعة أشياء يمكن إحصائها على أصابع اليدين دون أن نستهلك أغلبهم، وبينما تنشب النزاعات السياسية ومافيا التصريحات المتبادلة بين التيارات المختلفة \”التي لا تختلف في الكثير من الأمور\”، لا يبرز على السطح سوى الخطاب الموحّد بين الفصائل المتعددة التي لا تتنافس فيما بينها على تقديم الرؤية الأصلح، بقدر ما تتنافس على إحداث أكبر تقارب فكري بينها وبين السُلطة الحاكمة أياً كانت تلك السُلطة.
بالطبع نحن نتحدث هنا عن الفصائل السياسية الرسميّة متمثلة بشكل أكبر في الأحزاب السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولسنا بصدد التحدث عن من سقطوا من فوق كراسي السلطة إلى متاهات زمنية، قامت بابتلاعهم ومازالوا يتوعدون الجميع بالانتقام وقتما يعودون إلى سلطتهم الضائعة في غياهب الزمن.
وبرغم كل شيء، ورغم التقارب الواضح والفج بين الأحزاب والسُلطة في الوقت الحالي، إلا أن أغلب التيارات السياسية قد أجمعت على ضرورة تغيير وزير الداخلية محمد إبراهيم الذي عاصر ثلاثة رؤساء للجمهورية ولم يتزحزح من موقعه الذي لم يستطع أن يملأ شبراً منه، ولم يقدم للبلاد من خلاله سوى التشوّش والتخبّط والعنف والتضارب في كل شيء، حتى أصبحنا لا نعوّل على تصريحاته على أنها تصريحات رسميّة.
وزير الداخلية محمد إبراهيم الذي أتى به الرئيس الساقط محمد مرسي إلى موقعه، والذي في أحد تصريحاته الشهيرة ادعى بأن اسم محمد مرسي لم يكن مدرجاً في أسماء المساجين في سجن المرج الذي هرب منه يوم 28 يناير 2011، وتحدث بعدها في محادثة هاتفية شهيرة إلى قناة الجزيرة القطرية.
وهو ذاته وزير الداخلية الذي وصفه مرسي في أحد التسريبات الصوتية المنسوبة له بأنه \”لم يتلوث\” على حد قوله، وهو ذاته وزير الداخلية الذي كان يفض التظاهرات المناهضة للإخوان بالقوة، واعتقل على أثرها العديد من الشباب الذين عاد وزج بهم في السجون مرة أخرى بعد سقوط نظام الإخوان.
وبغض النظر عن تعديد حوادث ذلك الرجل العجيب، فإننا منذ أيام معدودة قد سمعنا بخبر إجراء تعديل وزاري محدود تضمّن إزاحته في اليوم التالي لنشوب حريق قاعة المؤتمرات بمدينة نصر التي كانت تحت حماية الداخلية وفي مسئولية الحماية المدنية، والتي تحولت إلى كومة رماد في لمح البصر.
سواء كانت إزاحته متعلقة بالحادث أم لا، إلا أننا وبكل تأكيد –كشعب- سعدنا كثيراً لخروجه من المشهد بشكلٍ ما، بعد أن كنا قد فقدنا الأمل في أن نرى أي تبدل في الوجوه في هذا المنصب الذي قامت على آثاره الثورات والاحتجاجات والمظلوميات وانقلبت البلاد ولم يحدث فيه أي تغيير.
وتلك الفرحة العارمة التي اتنابت كل من سمع بخبر إزاحته من منصبه، قد طغت على كينونة الوزير الجديد الذي كان يعمل في مباحث أمن الدولة، ذلك القطاع المسئول عن الجانب المعلوماتي في الشأن الأمني بشكل كبير.. الجانب المعلوماتي الذي نعلم جميعاً أنه أكثر جانب مصاب بالخلل، خصوصا خلال الفترة الأخيرة. وكالعادة دائما حينما يتم تغيير وزير الداخلية هذا وتعيين وزير الداخلية ذلك، لا نستطيع استنباط السبب أو أي من الحيثيات التي تم اختياره على أساسها، إلا أنه من الواضح هذه المرة أن الوزير الجديد أتى في إطار عملية تصالح بين مؤسسات الدولة، التي ومن الواضح أنها لم تكن على وفاق تام خلال الفترة الأخيرة، ولكن هل هذه المصالحة وذلك الإرضاء قد أتوا بالنفع على الشعب؟ أو، للإنصاف ولإعطاء الفرصة الكافية، هل ستأتي تلك الإجراءات بالخير على الشعب، أم أنها مجرد لم لشمل الدولة لمجرد لم الشمل؟
والصورة الثانية في ذلك التعديل الوزارين والتي يبرز من خلالها أمر المصالحة المنشودة بين المؤسسات المختلفةن قد تجلّت في أمر تعيين وزير الثقافة الجديد عبد الواحد النبوي عبد الواحد، خلفاً للدكتور جابر عصفور، ومن المعروف أنه لم يطالب أحد بإقالة عصفور من منصبه سوى حزب النور السلفي! نظراً لتصريحاته في مجال الرقابة على المصنفات الفنيّة وأمور كثيرة لها علاقة بحرية الفن والإبداع، والوزير الجديد عبد الواحد النبوي كمنتمي لمؤسسة الأزهر الشريف، قد جاء على هوى أغلب أنصار التيار الديني رغم وجود اختلافات منهجية بين تيار الإسلام السياسي وبين الأزهر، إلا أنهم بالتأكيد يفضلون أحد المنتمين للمؤسسة الدينية على من يدعو إلى فك الرقابة على الفنون المختلفة. ولم يثن على ذلك التغيير سوى حزب النور من خلال تصريحات الدكتور شعبان عبد العليم الأمين العام المساعد للحزب، والذي كان قد أعلن عن سعادته بذلك التغيير ورضا حزبه التام عنه، واصفاً ذلك الأمر بأن حزب النور السلفي كان هو السبب الرئيسي فيه!
ومما يضفي غرابة على ذلك الأمر هو أن الرئاسة نفسها كانت قبل أسابيع تصرّح على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي بأننا في حاجة إلى \”ثورة دينية\” تحرر المجتمع من التزمت والرجعية.
وبذلك نكون قد ارتأينا جميعاً أن المصالحة تتم، بالتأكيد هناك مصالحة تتم، ولكن هل هذه المصالحة تتم بين الدولة والتيارات التقدمية؟ بين الدولة والمستقلين سياسياً؟ بين الدولة والثورة؟ بين الدولة ودول أخرى؟ أم أنها مصالحة أطرافها الثلاثة هم مؤسسة الرئاسة، اليمين الديني، ومباحث أمن الدولة؟