مايكل عادل يكتب: الحرب على أنغام القانون

\”أحمد صعب\”
لا مكان للموسيقى بين الأشلاء والجثث، لا مكان للفنون وسط آلات القتل المُصَمّمة خصيصاً لإجهاض الأحلام والمُصَمِّمة بشراسة على إنهاء الفُرص والقضاء على المستقبل.
لا مجال للحلم، لا أفق للرؤية، لا سبيل للخلاص الجماعي، السفينة تغرق والأحلام بدورها تغوص بعيداً عن السطح.
ذلك هو المشهد الذي رآه \”أحمد صعب\” ابن مدينة حماة السوريّة الذي استقبلته الحياة بمجرد تخرّجه في جامعة حمص باندلاع الحرب. فبعد أن درس الموسيقى متخذاً قراره بأن يتحوّل من مُحب للفن إلى أحد صنّاعه، وجد أحمد القذائف وفوارغ الرصاص بانتظاره خارج أسوار الحياة الجامعية، فهرع خارجاً من مدينة \”حمص\” حيث تلقّى تعليمه وبدأ مشوار الدراسة العُليا سعياً لتدريس الموسيقى بالجامعة، ولاذ بمسقط رأسه حيث تقيم العائلة في \”حماة\” التي سرعان ما حاصرتها المأساة والنيران والأخبار المؤلمة اليومية التي تلتحق وتتذيّل باسم \”سوريا\” الوطن والبيت والإلهام، سوريا التي كانت تستعد لميلاد فنان جديد أصبحت مشغولة بأخبار الموت والإرهاب والألم.
لم يتحمّل أحمد تلك الحياة ولم يخمد طموحه وحلمه في قلبه حتى حملته الطائرة في بدايات عام 2013 من دمشق صوب القاهرة، حيث مازال هناك مكان للعزف والاستماع وبعض من الحلم. كانت الأحلام تملأ رأسه بينما تحمله رياح دمشق إلى القاهرة حيث احتوته أريكة قديمة في منزل صديق له بمصر لتشهد تلك الأريكة تطلّعاته إلى مواصلة العلم والعمل والفن بينما تشتعل البلاد من حوله بالحرب والكراهية والاقتتال بلا سبب مقنع لفنّان قرر أن يقدّم سنوات عمره القادمة للفن ولو على حساب ابتعاده عن أهله وزوجته \”ندى\” وعن بلاده التي لن يعود إليها قريباً، وحين يعود لن يجدها كما تركها بالتأكيد. فالحرب دائماً ما تجد ما تكسره وما تمحيه وما تضيفه بداخل النفوس قبل الخارطة.
سرعان ما لحقت \”ندى\” بزوجها في مصر ليأخذ الكفاح شكلا أسريّا يدفعه حب الفن والحياة والشراكة في كل شيء. اتخذ الزوجان منزلاً صغيراً بمحافظة الجيزة وبدأ الحظ في لعب دوره بلقاء أحمد مع أحد أنبغ الموسيقيين العرب الذي وهب عمره لتعليم الموسيقى وتقديم المساعدة لكل موهوب واتخذ من القاهرة القديمة قاعدة للانطلاق. جمع اللقاء بين أحمد صعب ومؤسس بيت العود العربي بالقاهرة الموسيقار العراقي \”نصير شمّه\”، فبدأ العمل في تدريس آلة القانون ببيت العود العربي واستقرّت الحياة نسبياً بتوفير عمل ثابت في المجال الذي يعشقه، ولم تبخل الحياة أيضاً بتوفير متسعاً له لتقديم العروض الموسيقيّة مع \”الفرقة السوريّة\” بمصر لتقديم مقطوعات من التراث السوري والمصري في حفلات فنيّة، ولكن سرعان ما عادت الحياة للعناد والمتاعب بانتهاء صلاحية جواز سفره وبالتالي عدم تمكّنه من تجديد إقامته كزائر مقيم أو عامل بمصر. فاضطر أحمد إلى تسجيل نفسه كلاجئ بمصر لينضم إلى أفواج اللاجئين من أبناء الأرض السوريّة الكريمة بمصر.
لن يتمكن من مغادرة مصر بسبب وضعه كلاجئ، ولن يتمكّن من العودة إلى سوريا بسبب وضعها في الحرب، ولن يتمكّن من ترك الموسيقى والفن الذي ركض خلفه ركضاً، ولن يتركه حلمه بالسفر حول العالم لاستئناف تعليمه الموسيقيّ وتقديم فنّه في أوروبا. الطموح وحده يحرّكه والحرب وحدها تلاحقه. لا خيبات تنتصر على نُبل النوايا ونقاء المقصد بالتأكيد، ولا تحترق الموسيقى بنيران الكراهية التي غادرها الرجل سعياً خلف مقطوعاته وألحانه. مُبهم هو مستقبل كل من ألحقت الحرب لقب \”لاجئ\” باسمه، مُبهم ومُقلق خاصة حينما لا يعرف الطموح سقفا ولا يتوقف الحلم عند نقطة الوصول إلى بر الأمان. فإن كانت الحياة هي الحق الأكبر والأول بين حقوق الإنسان، فعشق الجمال والفن هو الهدف الأنبل والأحق لاستئناف تلك الحياة.
التساؤل في ذهن أحمد هو ذاته الكامن في صدور أقرانه في كل مكان في العالم: \”ما دمنا نحب الحياة ونقصد الخير والجمال، لماذا لا تتذلل أمامنا كل تلك المصاعب؟\”، المصاعب التي لا تلاحق تاجر السلاح أو الإرهابي الذي يساعده سلاحه في إخلاء السبل وتمهيد الطرق أمام خطاه الدامية، هي التي تلاحق الفنان والطبيب والصانع والعامل الذين يساهمون في إكساب الحياة لونا وهدفا وإطارا من الجمال والنُبل حينما يجدون أنفسهم يهربون من شبح الموت والكراهية صوب النجاة، والنجاة وحدها بعد أن ملأت الحياة قلوبهم بالحلم الذي لا تحدّه السماء.
هذا هو \”أحمد صعب\”. واحد من أبناء سوريا التي لم تبخل على الإنسانية بالفن والحضارة والجمال، والتي يبخل العالم بأسره عليها بمجرد الحق في الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top