حين اتخذت قرارا بعدم استكمال رسالة الدكتوراه، التي عملت عليها حوالي أربع سنوات، وكانت تتعلق بعقود الاستثمار وسياسات الخصخصة، وما يتعلق بها من فساد، ومقارنتها بتجارب دول أخرى في التنمية، كان قراري لأسباب عدة.. من أهمها، أن مصر قد قامت بها ثورة ضد الفساد والاستبداد وأن الحديث عن مثل تلك السياسات التي أودت بالبلاد في مهاوٍ عدة، قد أصبح جزءا من الماضي، وبالتالي كان يتوجب عليّ أن أبحث عن بحث علمي قد يكون مفيدا فيما هو آت.
لم أكن اعلم وقتها – ونحن الثوار الذين أبهروا العالم وهزوا عرش الطغيان ووصلت ضحكاتهم وآمالهم إلى عنان السماء – أن ما هو آت لن يختلف كثيرا عما مضي.
\”لم أحلم بأني.. كنت أحلم.. كل شيء واقعي\”.
اذكر أنني وزوجتي كنا قد اتخذنا قرارا بأن ننجب طفلا، تقر به أعيننا ويكون ثمرة علاقة حب، ازعم أنها علاقة من نوع نادر.. زوجتي حملت بالفعل، وبدأت مخاوفنا مع جنون وسفالة نظام الإخوان تتعاظم.. جاءنا عرض عمل جيد خارج البلاد.. لم يكن القرار بحاجة إلى تفكير طويل.. بالطبع سنسافر، وسنبتعد بطفلتنا عن هذه البلاد.
ظهرت في الأفق بوادر ثورة – حسبناها حقيقية- ضد نظام الإخوان.. أحسسنا بالاطمئنان قليلا، فرفضنا ذاك العرض بلا تردد.. نحن باقون، ويبدو أن للحلم بقية.. اليوم اتذكر بمرارة لحظة أن رفضنا الابتعاد عن هذه البلاد.
\”لم نكن نعلم أن رعبا أكثر مما شاهدناه سوف يجيء\”
حين أٌعلن عزل المأفون مرسي، ذهبت فورا لأفي بما كنت قد نذرته، وهو سجدة شكر لله في شارع محمد محمود وسط استغراب المحيطين الذين لا أعرفهم، ولا يعرفونني، ولن يعرفوا أبدا علاقتي بشارع محمد محمود.
لم أكن اعلم – وقتها – أن الحال سيصل بنا إلى أننا لن نستطيع اجتياز هذا الشارع مرة أخرى، خشية أن يبصق علينا الشهداء من علٍ.
اذكر ذات يوم أني رأيت – فيما يرى النائم – عينا حرارة وبدر البنداري، وعين مالك مصطفى، تنظر دامعة إلى ميدان التحرير من على ناصية محمد محمود، وخاصمني النوم بعدها لأيام.
\”قال المسافر للمسافر لن نعود كما كنا\”
مساء 25 يناير، جلسنا على أرض ميدان التحرير، نغني بأصوات أنهكها الهتاف ضد الطاغية، وبعيون ألهبتها قنابل دخان عسس الطاغية.. كنا نغني \”الليلة يا سمرا\”، وتلتهب أكفنا بالتصفيق على إيقاع الأغنية، واذكر صديقا كان يحمس الجالسين على أرض الميدان في دوائر بكلمات الأبنودي: \”يا عم الظابط إنت كداب.. واللي بعتك كداب\”، وعلى أطراف تلك الدوائر، يمكنك أن ترى أعيننا تملؤها الدموع بعد سماع تلك الكلمات.
قال الأبنودي – صاحب قصيدة ضحكة المساجين – إن الضابط صاحب السجون التي يقبع بها رفاقي، هو أطهر من أنجبت مصر، وغنى منير للضابط صاحب السجون: الليلة يا سمرا!
\”هناك شيء في نفوسنا حزين.. قد يختفي ولا يبين، لكنه مكنو.. شيء غريب.. غامض.. حنون.. لعله التذكار.. تذكار يوم تافه بلا قرار، أو ليلة قد ضمها النسيان في إزار\”