ما هي المشكلة فعلاً، أن تكون هناك أقلية مضطهدة، أم أن لا تتحلى بشطارة التعامل مع مضطهديها؟
في رأيي ما يعانيه الأقباط الآن في المنيا لا يُلصق بفصيل سياسي أو إسلامي ما، ولا حتى بأنور السادات الذي فتح زنازين المتطرفين عليهم، ولا بثلاث مائة جاهل عروا عجوزا من ملابسها.. الأمر يمتد إلى داخل أسوار الكنيسة أمام المذبح؛ هناك حيث يقف قسيس يعظ الشعب بكل وضوح: \”من لطمك على خدك الأيمن، فلا تبخل عليه بالآخر، يأتي يوم يعرونكم فيه ويطردونكم ويشتمونكم\”.. هكذا قال الإنجيل يا أبنائي، لماذا أنتم متعجرفون بهذا الشكل؟! انظروا المسيح على الصليب، هل عرفت البشرية إلهاً مُهاناً بهذا الشكل؟!
صدقوني الأمر أكبر منا ومنكم ومن البابا ومن الرئيس (كأنه يخص المجرة) صلوا واطمئنوا.. والرب يدافع عنكم وأنتم تصمتون.
ربما ما ألهى عبد الناصر عن المسيحيين، هوسه بالقومية العربية، وقد كان من الحنكة والذكاء كي يدفع مبلغاً ليس بقليل في بناء كاتدرائية، وهذه المساهمة الجليلة لا يقف خلفها طبعاً الأساطير التي يرويها الأقباط عن أحلام راودته؟ والبابا كيرلس الذي أنذره، بل ببساطة تتعلق بشيء بعيداً تماماً عن مدارك الأقباط، أولاً لأنهم مصريون، ثانياً لأنهم مسيحيون، ألا وهو السياسة.
ثم جاء الرئيس المؤمن السادات فقدم خدمة للأقباط بأن أعادهم لعصر الاستشهاد الذهبي مرة أخرى، وألهب لديهم الإحساس بالخطر ودفعهم ليجسدوا كلمات الإنجيل بشكل فعلي.
خاضوا الزاوية الحمرا والكشح واحتجاز البابا شنودة بالدير وأحداث محرم بك ونجع حمادي والقديسين وماسبيرو وإمبابه والعمرانية.
ينتظر مجموعة متطرفين قسيساً وهو عائد بسيارته من القداس صباحاً، فيمطرونها بالرصاص ويسفر الحادث عن مقتل زوجته وخدامه، ويشفي المقربون غليلهم ببناء مزار، ومدير مدرسة بسوهاج يعترض على التحاق الأقباط بفصوله، ومدرسة أخرى تعترض أن تتولى نظارتها مسيحية، وضباط يتم تضييق الخناق عليهم أثناء تأدية الخدمة بالجيش، مقابل امرأة ارتدت عن الإسلام، وراهبة يتحرش بها مصلي، لأنها داست -هفوة- على سجادته، وآخر مختل عقلياً يتعرض يوم جمعة صباحاً لعجوز أمام باب الكنيسة، فيرسله لمسيحه بطعنة واحدة.
أضف إلى ذلك كنائس لها ترخيص يتم الهجوم عليها، وأخرى بلا ترخيص فلا ينتظرون غضب الله ويحرقونها هم! كل هذا امتد كم سنة؟ وماذا ترك في عقول هذه الأقلية؟
أذكر مرة أني قضيت ساعة كاملة أشرح لزملائي في الكلية (المسلمين طبعاً) لماذا يتحزب الأقباط في أي مكان.. يحامون على بعضهم ويسعون لتكوين الاُسر والاجتماعات مرددين \”هذا مننا، هذا كريستيان\”؟ والحقيقة أنه لم يفجر هذه العنصرية فيهم إلا قوة من نفس النوع مورست على آبائهم وأجدادهم.
لكن كيف تعاملت الدولة من البداية؟ أو بتعبير أدق ما هو البروتوكول الذي وضعته لوأد الفتنة الطائفية وسار يُطبق حتى الآن؟ جلسات عرفية، الحرص ألا يرتفع مبنى الخدمات غير المرخص مرة أخرى حتى لا نثير غضب إخواننا المسلمين الذين لا يهمهم في الأمر سوى هيبة الدولة! فيلم ساذج يكتبه يوسف معاطي وتنتجه أضخم شركة سينما في مصر حينذاك، زيارة نجم الفيلم لنجع حمادي حتى يُشاهد الفيلم بصحبة الجماهير الطيبة قبل أي شيء، مداخلة تليفونية لرجل عجوز يتلعثم كثيراً وهو يحكي عن جارتهم تريز التي كانت تشارك أمه في عمل كحك العيد، مداخلة أخرى لفنان يبكي بشكل محموم حتى يفقد السيطرة على نفسه ويقطعوا عليه الاتصال في الكونترول روم، صور في الأهرام لشيخ يلقي نكتة وأمامه أسقف فاشخ بقه بعد وقوع الحادث بيومين، صفان من كراسي كبار الزوار ليلة العيد في الكنيسة (وأهو لو اتفجرنا معاكم متقولوش إنكم مضطهدين)!
هذه طبعاً كلها أمور ظاهرة وأي أحد يمكن أن يحصيها، لكنها ليست الخطوات الفعلية لإنهاء الأمر.
عادةً يتم الضغط على الأسقف المسئول عن المكان الذي جرت فيه الواقعة، وهذا الضغط لا يأخذ دوماً جانب التهديد، بل أحياناً يغرونه بتراخيص عدد من الكنائس، وهذا لا يمنع تجنيد عدد من أساقفة آخرين لهم ولاء للبلد والنظام يتحرون الأخبار أولا بأول ويقدمون للكنيسة كل الأدلة على أن تنازلها عن القضية سيكون في صالح الرعية.
وقد يتم اللجوء، إذا استعصت الأمور، إلى سيناريو المساومة (سيب وأنا سيب) أي أنكم تنسون القضية ونحن نخرج لكم أولادكم الذين تمتلئ بهم سجوننا! هل ينتهي الأمر هنا؟
أبداً.
المشكلة الحقيقية هي أن هذا البروتوكول الذي اتبعته الدولة، صنع من الإكليروس (رجال الدين) وعلى رأسهم البابا، مضطهداً آخر للأقباط.. أي أن هذا القسيس لا يختلف كثيراً عن المُخبر! في أفلام الحرب العالمية كان يجذبني جداً كيف يعين النازيون شرطة من اليهود ليمارسوا غطرستهم على اليهود! وهو بالظبط ما يدور الآن.. سأمنحك قضيباً وأغلق عليك باب الكنيسة، وأدِّب شعبك بالطريقة التي تليق، المهم الهدوء!
وكيف تعامل هذا الشعب المسكين؟ بالطبع خضع للنظام الذي وضعه من هم أكثر منه روحانية وعلماً.
أخبرني القسيس اليوم أنني شهيد المسيح على درجة استبن! حسناً، فليقتلوني أنا وأهل بيتي، وستكون بجاحة فظة لو طالب أحد أقاربنا بحق أو عدل.
ارتوت كل الأجيال السابقة بروح اليأس، وها هو الجيل الجديد يردد ما ردده الآباء: نحن أقلية.. لماذا يكون لنا صوت أو حق؟! أي محاولة لإعاقة اضطهادم لنا، لا تمنحنا سوى شرف المحاولة.. الرئيس جيد، لكن النظام شرير، السادات هو السبب، إنها تجربة من الشيطان، لماذا علينا أن نهرب بما تنبأ به الإنجيل لنا؟ انظر كم قرناً عانت المسيحية وقد ذهب الطغاة وبقيت هي (إلا الإسلام غريبة).
والسؤال: حينما يردد شخص ما كل هذا، لماذا على الدولة أن تعتبره مواطناً أصلاً؟ هل يستحق الأقباط العدالة مع خنوعهم هذا؟ ولماذا على المسيحي أن يتأفف أو يعاتب الله الغائب، أو يبدأ في التنفيس بإطلاق كل هذه العنصرية في وجه زملائه بالعمل أو من يعملون تحت يديه؟ لماذا عليه أن يعيش من الأساس؟!
الحياة صعبة لأمثالهم.. فعلاً.
لكن نحن هنا لتحليل الوضع، لا لالتماس العذر.. كل هذه الإدعاءات المسامحة، والتنازلات، ما هي إلا تعويض لنقص يجتاح الأقباط في مصر كأقلية غير متزنة.
لنعود لشخصية بولس الرسول المؤسس الأهم للمسيحية، وما فعله حينما قبض عليه الرومان وأرادوا جلده، فإذ به يتسلح بجنسيته الرومانية مخيفاً إياهم بها.. لماذا في هذه اللحظة لم يستسلم لأوهام المسيحيين الحاليين، هل هو أقل إيماناً منكم، أم أكثر قوة؟ الحق أقول لكم، لقد فرطتم فيما هو لكم، والآن تريدون من الكل أن يسير على نهجكم، حتى لا تشعروا بالخزي.
لكن لحسن الحظ، في الأونة الأخيرة ظهرت حركات كثيرة ليست فقط من الشباب، بل وسطهم كهنة أيضاً، يرفضون بروتوكولات وأد الفتنة الطائفية التي صنعتها الدولة، ويرون أنه من الطبيعي أن نجري تعديلاً ما على سياسة البابا ومجمع الأساقفة في التعامل مع الأزمات، وأن هذا لا يعتبر إدانة، ولن يٌدخِل أحد النار.
سيهاجمني عجوز: لكن هذه الانتفاضة ستزهق الكثير من الأرواح!
يا سيدي الدم سيسيل في الحالتين، إذا فلتموتوا بكرامتكم.
وهذه نقطة خطيرة في أذهان الأقباط، هم يعتقدون أن سكوتهم سيثير يوماً شفقة الدولة عليهم، لكنه في الحقيقة يثبت جدارتهم في كل مرة أنهم كارت رابح بلا شك، لدرجة جعلت الحكومة تتاجر بهم في صفقات مع السلفيين في الصعيد أو المناطق الشعبية.. تتعاقد الأجهزة مع قادة الجماعات على عدم تهييج الناس ضدهم، وألا يتهموا الحكومة بأنها كافرة، مقابل ماذا؟ مقابل أن يتصرف هؤلاء المتطرفين في الكفرة الحقيقيين كيفما يشاؤون!
إذا كنت تظن أن تمردك يدمرك، فهذا ما ظنه اليهود قبل أن يخرجهم موسى من مصر، ولو فكر السود في أمريكا بهذه الطريقة، لما صار لهم رئيساً اليوم في أكبر دولة بالعالم، ولما حصل المثليون على حقوقهم، ولما وصل الإخوان للحكم.
ستقول لي إنها سياسة.. سأخبرك بأن اللعبة في متناول الجميع، وشطارتك في تشكيل الضغط، والأقباط مع قلتهم، قوة لا يستهان بها.
لكن، أين هو الضغط في التصفيق للجنرال، والتشبث بنظام يعرف مدى مهارة الجبناء في أن يخلقوا حوله هالة من العظمة حتى وهو يجلدهم، ثم يخرجوا صارخين يطالبون بالعدل؟! لكن، هل من المعقول أن يمنحهم أحد شيئاً سرقوه هم من أنفسهم؟!