حين توفي ثمانية عشر مواطنا إثر انهيار بناية في القنيطرة بالمغرب عام 2008، فتح ملف الفساد العقاري هناك، وتحدثت الجرائد وشاشات التلفزة عن كل كبيرة وصغيرة في القضيه.. وفي 2015 فقد ما يقرب من تسعة وعشرون مصريا حياتهم في حادث غرق مركب في نهر النيل، فتحول الموضوع إلى قضية رأي عام، وقتل بحثا وظهرت أسماء وأرقام وكشفت شبكات فساد ومصالح.
لكن حين توفي أكثر من سبعمائة حاج يفترض أنهم في معية خادم الحرمين الشريفين، لم يتحدث أحد!
مئات لقوا مصرعهم إثر التدافع الناجم عن إهمال جم من إدارة الحج، ورغم ذلك، لا تحقيق لا معلومه لا شيء.. فقط حديث عن كونهم شهداء وتأكيد على أن الجنة موعدهم والتعويضات مجزيه بإذن الله.
ذهب المعز وجنة الفردوس.. هو فقط ما سمح لنا بمعرفته والحديث عنه.
المملكة العربية السعودية، كيف استطاعت تكميم الأفواه وإسكات الأصوات في العالم العربي؟ إحدى المواضيع المحرمة، التي لا يرغب أحد في الإشارة إليها.
يتحدث \”غوستاف لو بون\” في كتابه \”سيكولوجية الجماهير عن إن الدولة هي صاحبة الرواية \”الرسمية\”، لكن حين تتحول الدولة إلى صاحبة الرواية \”الوحيدة\” فثمة أمر خطأ في الصورة.
ينطبق حديث \”لو بون\” تماما مع المشهد في المملكة السعودية غير المسموح فيها بالتصوير أو التسجيل أو النقل إلا ما ندر، وعن ذلك تتحدث \”رانيا صبري\” الإعلاميه بهيئة الإذاعة البريطانية قائلة: \”السعودية لا تسمح باستخراج تصاريح تصوير للمراسلين الأجانب، وإن سمحت -وذلك نادر الحدوث- فسيكون معك \”مراقبا\” طول فترة وجودك بالمملكة، وبذلك تضمن الدولة السيطرة على كل ما يكتب أو يصور في أراضيها، وهو أمر شاذ وغير متعارف عليه\”.
لكن السيطرة السعودية على الإعلام لم تتوقف على حدود المملكة، بل امتدت من المحيط للخليح، إلى الدرجة التي أصبحت فيها السعودية إحدى المحظورات في الصحف العربية، وكان من المعروف عن صفوت الشريف وزير الإعلام المصري في عهد مبارك، أنه بعد الموافقه على إصدار ترخيص مطبوعة جديدة، يجلس مع رئيس تحريرها ليقول له جملته الشهيرة: \”تحدث بشفافيه عن كل شيء، وانقد ما تشاء ومن تشاء بكل شجاعة، ما عدا ثلاث مناطق اعتبرهم خطوطا حمراء لا تقترب منهم: الرئيس وأسرته – الجيش- السعودية!
الأمر لا يقف على القاهرة فقط، بل يمتد ليشمل كافة عواصم بلاد العرب، والبعض يتحدث عن أن أموال آل سعود تضخ في كثير من المطبوعات الغربية، \”نادر العلي\” الصحافي الأردني يشير إلى ذلك قائلا: \”تغطية الإعلام الغربي لثورة البحرين، أو لنقل عدم تغطيتها، يخبرك بالكثير عن النفوذ السعودي هناك، التي لم تكن لتسمح بثورة شيعية في الخليج، فلم تكتفي بسحق المعارضة البحرينية على الأرض، بل استخدمت أموالها لشراء ذمم في الميديا الغربية، والنتيجة كما رأينا \”تجاهل غربي تام لدماء أريقت في البحرين\”
ربما يكون حديث \”العلي\” مبالغا فيه أو يمكن تصنيفه تحت ما يسمى نظرية المؤامرة التي أدمنا تفسير الأشياء من خلالها، لكنه قطعا يشير إلى الذهنية الإعلامية العربية التي باتت مقتنعة أن المال السعودي حاضر لتكميم الأفواه أينما كانت.
لكن إذا كان حديثا نادرا عن نفوذ آل سعود في الغرب يمكن اعتباره مبالغة، فالواضح للكل أن نفوذهم في العالم العربي حقيقة لا يمكن انكارها، فأينما تولي وجهك، فثمة قناة أو مطبوعة تملكها السعودية أو تمولها من الباطن.
السؤال كيف حدث هذا؟ وكيف اصبحت السعوديه خطا أحمر؟
يجبينا عن هذا السؤال رئيس إحدى القنوات الفضائية (الذي فضل عدم ذكر اسمه) قائلا:
السعودية شبه احتكرت المحتوى الترفيهي، والخطة بدأت من الثمانينيات، حين كان المنتج الترفيهي الأبرز هو الفيلم المصري، دخلت السعودية بأموالها من خلال الموزع (الشخص المسؤل عن توزيع الفيلم لدول الخليج) وبعد فترة وجد الموزع أن السوق الخليجي لن ينتظر الفيلم حتى يعرض في السينما، ثم يسافر لهناك ليعرض في المنازل \”فيديو\”، فظهرت موجة أفلام تنتج خصيصا لتعرض في المنازل، وهي ما عرفت باسم \”فلام المقاولات\” من هنا ظهر المال السعودي مصحوبا بالذوق الوهابي المحافظ.
ومع ظهور الفضائيات كان المال السعودي حاضرا بقوة، فأغلب المحطات الترفيهية هي مال سعودي (MBC- LBS – روتانا – زين…..إلخ) فضلا عن عشرات القنوات الدينية السعودية وقنوات الأفلام \”المسروقه\”، التي تبث أفلاما من شاشة العرض إليك، أضف إليهم قناة العربية وفضائيات إخبارية أخرى تتلقى دعما سعوديا.
يضيف مدير المحطة: القنوات الترفيهية والدينية التي تبدو لك غير متورطة في السياسية، هي في الحقيقة منصات جاهزة للتحرك عند الحاجة، ففي لحظه ستجد كل هؤلاء يعزفون نفس اللحن محيطين المتفرج العربي بما يريد قاطني قصور الرياض له أن يسمع ويشاهد.
ولعل مشهد وفاة الملك السعودي عبدالله كان كاشفا ودالا لمدى نفوذ المملكة، فتقريبا كل الفضائيات أعلنت الحداد على الرجل، وهو أمر غير معتاد، فكم ملك ورئيس وافته المنية ولم يحدث هذا، لكن ملك السعودية هو رجل العرب وكبير العرب على حد تعبير الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي يجب الحداد عليه.
لكن المال السعودي لم يتوقف فقط على انشاء الفضائيات والجرائد، بل إن هناك حديثا يدور بين الصحفيين لسنوات طويلة عن رواتب تدفع لشراء أصوات الكتاب وضمان ولائهم، لذلك لاقت تسريبات ويكيليكس هوى عند الكثيرين حين فضحت ذلك.
فها هي وثيقة صادرة من المكتب الإعلامي للسفارة السعودية بالقاهرة تقول صراحة إنه تم الاتفاق مع الإعلامي الكبير محمد مصطفى شردي (لاستقطاب) مجموعة من الإعلاميين المصريين المميزين للعمل بالمكتب الإعلامي للسفارة السعودية!
وهنا تساءل الكل عن معنى \”استقطاب\”، وما طبيعة المهام المنوط بهؤلاء الإعلاميون تنفيذها لصالح السعودية حتى يتقاضوا رواتبهم؟
وإن كانت وثيقة مصطفى شردي تحدثنا عن تحرك السعوديين لاستقطاب الإعلاميين المصريين، فوثيقة أخرى لويكيليكس تكشف لنا أن هناك من ذهب طواعية يطلب أموال آل سعود، فوفقا لوثيقة أخرى صادرة من السفارة السعودية بالقاهرة، ختم عليها سري جدا – توجه الصحفى الكبير مصطفى بكري المقرب من المجلس العسكري ومن المشير طنطاوي شخصيا، ليقول لهم إن الإيرانيين بدأوا في الاتصال به وبغيره من الإعلاميين، وأنه يرى ضرورة التحرك السعودي السريع ويطلب منهم صراحة دعمه بالأموال اللازمة لإنشاء محطة فضائية وتحويل جريدته الأسبوعيه لجريده يومية، فضلا عن مساعدته في تكوين حزب سياسي لمواجهة الخطر الشيعي القادم!
بالقطع انكر كل من شردي وبكري هذه الوثائق وكذّبوها، وهو نفس الشيء الذي فعله الداعية الكبير عمرو خالد، الذي أشارت التسريبات أيضا أنه طلب من السعودية دعمه ماليا في مشروعه الخيري الذي سوف يتكلف مبلغ 75 مليون ريال سعودي!
علاقة النظام السعودي بالإعلام لخصته المعارضة السعودية د.مضاوي الرشيد في مداخلة هاتفيه مع BBC قائلة إن النظام السعودي انفق كثيرا من الأموال على الإعلام لضمان انعدام الصوت المعارض له، لذا فليس مستغربا أن لا تجد أي فضائية أو جريدة تنتقد المملكة في سوء إدارتها للحج، رغم أن الكوارث التي حدثت هذا العام، والتي لا تعد المرة الأولى التي نرى فيها تلك الإخفاقات.
ختاما.. ربما تكون الدماء الزكية التي سالت في الحرم هذا العام فرصة لنقف ونراجع أنفسنا ونفتح ملف المال السعودي وعلاقته بالإعلام، فالمؤكد أنه لم يعد مقبولا أن تكمم الأفواه وتطمس الحقائق لهذا الحد.
فقط نريد أن نعرف حقيقة ما جرى، دون أن نجد من يقول بكل صلافة: السعودية خط أحمر.