البحث عن الأسباب المنطقية لنجاح الأفلام نوع من العبث، واقصد النجاح التجارى، وليس الفنى، لأن النجاح الفنى له معايير تتعلق بجودة عناصره، ولكن للجمهور حسابات أخرى دائما، أتحداك أن تكتشفها، وفى هذه الأسطر، محاولة للتفكير من وجهة نظر الطرف الآخر، وهو الجمهور، رغم أنه لا يمثل وجهة نظر واحدة، ولا ذوق واحد ولا حتى مرحلة سنية واحدة، وإن كانت النسبة الأكبرمن الجمهور تقترب من الثلاثين عاما، ولا تزيد عنه إلا قليلا.
فيلم \”هيبتا\” مأخوذ عن رواية لمحمد صادق، أحدثت ضجة عند طرحها بالأسواق، وخاطبت فئة من عشاق الحكايات الرومانسية، وهى ميزة مضافة للعمل، أن يستقطب جمهور الرواية، كما حدث مع \”عمارة يعقوبيان\”، ثم \”الفيل الأرزق\”، وأخيرا \”هيبتا\”، مع تباين درجة النجاح والمستوى الفنى والمحتوى لكل من الأفلام الثلاثة.
لكن هل اعتماد الفيلم على أحداث رواية، كاف لنجاحه؟ طبعا لا، فتاريخ السينما المصرية شهد أفلاما فاشلة كانت مأخوذة عن روايات لكبار الكتاب، وهو أمر لا يحدث فى السينما المصرية وحدها، ولكن فى السينما العالمية أيضا، أما إذا اعتمدنا على تاريخ صناع الفيلم، فسوف نجد أن تاريخ كل منهم منفردا، ليس كافيا ليكون ضمانا للنجاح.
المخرج هادى الباجورى، تجاربة السينمائية محدودة، سبق له تقديم فيلم \”واحد صحيح\”، لهانى سلامة وبسمة ورانيا يوسف وكندة علوش، ورغم سخونة الأحداث، إلا أن الفيلم مر بسلام، وكان يستحق اهتماما أكبر من الجمهور، ولكن هذا لم يحدث، وكذلك مرت تجربة فيلم \”وردة\” دون أن تترك أثرا يستحق عناء المخاطرة بتقديم نوعية جديدة من الأفلام، تحاكى أفلام الرعب الأمريكية، ولكن بأسلوب أقل حدة، أما كاتب السيناريو وائل حمدى، فقبل \”هيبتا\” كانت له تجربة سينمائية مع فيلم \”ميكانو\”، وعدة مسلسلات وست كوم، متفاوتة النجاح.
ندخل بقى ع الأبطال، وهم مجموعة متميزة حقا، ولكن سبق لبعضهم المشاركة فى أفلام ومسلسلات لم تحقق نجاحا، وتقدر تقول بكل وضوح ليس بينهم نجم شباك اسمة يكفى لإقبال الجماهير! إذن كيف حدث أن اجتماع هؤلاء، أدى إلى صناعة منتج سينمائى شديد التميز، يمكن أن تعتبره نقطة انطلاق جديدة لكل من شارك فيه؟!
أحيانا ما يتوفر للعمل الفنى عناصر من خارجه تساهم فى زيادة الاقبال عليه، أو تخلق حالة شغف لمتابعته، وهنا اقدر اقولك إن أسلوب الدعاية كان من عوامل الجذب، خاصة وأن الجمهور كان يفتقد الحضور الفنى لدنيا سمير غانم، التى أدت أغنية الكليب الترويجى أو الدعائى للفيلم، بالإضافة إلى أن الكليب ذاته، كان مثيرا للاهتمام، دون أن يتورط فى حرق التفاصيل، أو طبيعة الشخصيات!
ندخل على الفيلم نفسه، الذى يبدأ بمحاضرة يليقها د. شكري أو ماجد الكدوانى، والقاعة تمتلأ عن آخرها بالحضور، بينهم نجوم مثل نيللى كريم وشيرين رضا، ومحمد فراج، ونفهم أن المحاضرة عن أركان الحب، أو المراحل التى يمر بها، إنطلاقا من الحديث عن سحر رقم سبعه، وهو معنى كلمة \”هيبتا\”، ويؤكد دكتور شكري لجمهوره، أن علاقات الحب تمر غالباً بسبع مراحل (بعض العلاقات مش بتلحق تكمل مرحلة أو اثنتين) أهم المراحل السبع تتعلق بالبدايات، وهى مرحلة الاكتشاف والانبهار، وهى المراحل التى يكتشف فيها كل طرف شريكه ويكون فى قمة الانبهار به، ومعه يكتشف نفسه أيضا، فكثير منا يكتشف مزايا أو عيوب كانت كامنة داخل طيات نفسه، ولا تظهر إلا عندما يلتقى بالطرف الذى يثير اهتمامه!
وبشكل متواز مع إلقاء المحاضرة، نتابع بعض العلاقات التى لا نستوعب تفاصيلها، إلا كلما توغلنا فى الحكاية، فى البداية نتابع علاقة حب بين طفلين، بينهما ما يمكن أن نطلق عليه الحب البرىء، الناتج من علاقة أسرتيهما، ثم نتابع الشاب \”كريم\” أو أحمد مالك، الذى يقيم فى مستشفى استثمارى فاخرة فى انتظار إجراء جراحة، ويبدو وحيدا مما يثير تعاطف الممرضة \”سلوى محمد على\” ويتعلق كريم بعلاقة اعجاب مزمن مع دينا \”جميلة عوض\” التى تحرص على زيارته دون علم أسرتها، وسهل أن نتفهم أن كريم ودينا، هما نفس الطفلين، اللذين شاهدناهما سابقا، ولكن طبعا صعب جدا أن تكتشف أن الشاب رامى الرسام البوهيمى \”أحمد داوود\”، هو امتداد لشخصية كريم، أو أن يوسف \”عمرو يوسف\” هو امتداد بشكل ما لكل منهما، مش مهم تفهم قوى، تبقى تشوف الفيلم، لأن أروع ما يميزه هو أسلوب السرد، الذى لا يسير فى خطوط تصاعدية، وتشابك أحداث، ولكنة يترك المشاهد فى نقاط فاصلة وحادة، ومصيرية، لينتقل إلى حالة مختلفة أو مرحلة مختلفة من الحب، فبعد الإعجاب والانبهار، تبدو أحيانا جعبة العاشق وقد خوت وفرغت من الألعاب المثيرة، ولم يعد ما كان يثير انبهار الطرف الآخر له نفس السحر، فيجد العاشق فتورا من شريكه يصل بهما إلى حالة الملل، والتململ، وربما يضطر أن يعلن عن احتياجه ويظهر نقاطا ضعفة، التى ربما لا تجد استجابة، وهنا قد يتحول الحب والشغف إلى كراهية، فالذى استنجدت به، وأظهرت له نقاط ضعفك، لم يمد يده، حين كنت فى شدة الاحتياج له!
كثير منا كان يوماً الطرف الأول أو الطرف الثانى، أو مرت علينا تفاصيل الحكاية بشكل ما، أو كنا شاهد عيان لنهاية حب بين شخصين كانا مضربين للأمثال، فى قوة علاقتهما وشغف كل منهما بالآخر، ولكن النفوس تتغير كما تتغير الملامح أحيانا، ولذلك كان لكل مرحلة من مراحل الحب السبع اثنين من الممثلين يجسدونها، بأسماء مختلفه، فأنت عندما تراجع حياتك من خمسة عشر عاما أو يزيد ربما تشعر بغربة، وكأنك شخص آخر، أفضل أو أكثر سوءا، فهذا يعتمد على أشياء كثيرة وعوامل قد لا تكون مسؤولا عن جميعها!
بالإضافة للحضور الطاغي لماجد الكدوانى، لابد وأن تخطفك شخصية أحمد داوود، المقتحمة وأسلوبه فى التعرف إلى \”دينا الشربينى\” ومغازلتها!
ومن باب الصدفة أن كل من أحمد داوود وماجد الكدوانى كانا أيضا أفضل عناصر فيلم \”قبل زحمة الصيف\” مع اختلاف نوع وتركيبة الشخصية التى قدمها كل منهما فى الفيلمين.
ياسمين رئيس تلقائية وبساطة وعفوية فى تقديم شخصية من المفترض أنها مرت بظروف قهرية يمكن أن تحطم حياة أى فتاة، ولكنها تبدو أقوى من الرجل \”عمرو يوسف\” الذى قرر الانتحار فى لحظة يأس، فتكون له طوق النجاة، وتدفعه للتمسك بالحياة مرة أخرى.
هل يمكن أن يؤدى الفشل فى الحب إلى الانتحار؟ فعلتها كندة علوش، وأفسدت حياة ابنها، وأحدثت فى نفسه شرخا لم يندمل، وربما تكون فكرة الانتحار هى أقرب ما خطر على باله بعد سنوات من فقده لأمه، لينتهى عذاب فشله فى علاقته الزوجية!
طوال المحاضرة التى يلقيها د. شكري \”ماجد الكدوانى\”عن مراحل الحب السبعة، تتابع الكاميرا امرأة جميلة فى منتصف العمر، تجلس بين الحضور \”شيرين رضا\”، وتحمل ملامحها، ظل ابتسامة تجمع بين الشجن والاشتياق وتداعى الذكريات، وبدون أن تنطق بكلمة، يمكن أن تدرك بسهولة أن ثمة علاقة كانت تربطها بدكتور شكرى، لتضع الدقائق الأخيرة من الفيلم القطع الناقصة لقطعة البازل، وتتعرف على طبيعة علاقات كنت تظن أن كل منها منفصل تماما عن غيرها، وتساهم حركة كاميرا \”جمال البوشى\” فى الربط بين السطح الذى ظهرت منه ياسمين رئيس، وبين البالكون المقابل الذى كان يستعد عمرو يوسف الانتحار من فوق سوره! أجمل الأفلام، هو ذلك الذى يترك علامات استفهام تلازمك بعد أن تخرج من دار العرض.
(هيبتا) يتمتع بأسلوب سرد ممتع وحوار أخّاذ لـ \”وائل حمدى\”، يجعلك فى حالة يقظة دائمة، ومن أقوى عناصره كاميرا البوشى، واختيار أماكن التصوير التى لم تهرسها السينما المصرية من قبل، وروعة أداء فريق التمثيل، وموسيقى هشام نزيه.
للمخرج الفرنسى الكبير كلود ليلوش ثلاثية أفلام عن علاقات الحب فى مراحل الحياة المختلفة متأثرا بالظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة، منها \”الحياة للحياة\”، و\”الحياة للحب\”، و\”الحياة والحب والموت\”، بالإضافة طبعا لرائعته \”رجل وامرأة\” الذى قدمه فى الستينيات من القرن العشرين.. للسينما الفرنسية مذاق خاص، وهى تحتفى بالحب كقيمة مجردة وسبب قوى لاستمرار الحياة أو للموت، لا علاقة بما قدمه ليلوش فى أفلامه بفيلم \”هيبتا\”، ولكن الشىء بالشىء يذكر، وخاصة وأن السينما المصرية تناست الموضوعات الإنسانية، وانغمست فى نماذج بشرية جوفاء، واصبح الحب وكأنه خطيئة لا يجوز أن تكون موضوعا للأفلام والروايات، وكانت قيمة رواية \”هيبتا\” والفيلم المأخوذ عنها أنهما يعيدانا لأهم احتياج إنسانى يستحق أن نعيش لأجله ونعافر لنجاحه واستمراره. الفيلم سوف يضع اسم هادى الباجورى ضمن قائمة المخرجين الذين يستحقون أن ننتظر باهتمام أفلامهم القادمة.