ماجدة خير الله تكتب: هل كان لابد أن تأكلي من التفاحة المحرمة يا نوارة؟

 

لازالت صرخات نوارة، تشرخ صمت الكومباوند الهادىء الذى هجره أهله من أثرياء نظام مبارك وفروا هاربين بثرواتهم الضخمة. وسوف يحاصرك هذا السؤال ولا يترك لك مجالا لراحة الضمير، ما الذى فعلته البنت الغلبانة نوارة حتى تستحق هذا المصير؟

هل لأنها قضمت التفاحة المحرمة، وعاشت لحظات متعة مسروقة، تصورت أنها من حقها، أم لأنها حلمت بحياة أفضل؟ أليس غريبا أن من تفانوا فى خدمة طبقة الأسياد، وأخلصوا، هم أكثر من تأذوا، سواء كانت نوارة، أو بوتشي الكلب الوفى لأصحابه؟!

فيلم \”نوارة\” الذى كتبت له السيناريو وأخرجته هالة خليل، ينكأ الجراح مرة أخرى، ولو أنها لم تكن قد اندملت بعد.

لإحسان عبد القدوس، قصة قصيرة باسم \”جرحى الثورة\”، يقصد بها فئة أبناء الطبقات الإرستقراطية التى أصابها الأذى، بعد ثورة ظباط يوليو 1952 وقرارات التأميم العشوائية التى راح ضحيتها مئات الأسر، أما جرحى ثورة يناير2011، فهم طبقات كثيرة ومتفاوتة من الشعب المصرى، هم من حلموا ببداية جديدة تضع خطا فاصلا بينهم وبين الظلم الاجتماعى، والفساد الذى دمر حياة ملايين المصريين، لأكثر من ثلاثين عاما.

ومع ذلك فإن نوارة \”منة شلبى\”، لم تكن من المؤمنين بالثورة، ولم تكن تعارضها أيضا، إنها مثل قطاع كبير من الشعب المصرى، لا يعبء كثيرا بالأحداث الجارية، وكأنها أمر لا يخصه، لأن كل ما يشغل بالها، أن تعيش مستورة وترضى بأقل القليل، وقد صدقت حلم أن ثروة مبارك المنهوبة سوف يتم توزيعها بالعدل على كل مواطن مصرى، بحيث ينال كل منهم مبلغ مائتي ألف جنيه! ومش عارفة جابوا الحسبة دى منين؟!

المفارقة التى تعيشها نوارة، أنها تسكن فى منطقة عشوائية، وفى شقة بالغة التواضع، ليس بها مكان لقضاء الحاجة، ولامياه للشرب والاستحمام، وتضطر أن تحمل يوميا جراكن فارغة لتملأها بالمياه، وتعود بها، لجدتها العجوز، كى تستخدمها فى شئون الحياة الأساسية، وهى متزوجة من على \”أمير صلاح الدين\”، وهو شاب نوبى فقير مثلها، ولم يتمكن من تدبير مكان للزواج، فظلت علاقته بنوارة شفهية، فى انتظار فرج لا يأتى أبدا، وفى نفس الوقت فهى تعمل خادمة لدى أسرة أسامة بيه \”محمود حميدة\” التى تسكن فى كومباوند، مغلق على أصحابه من الأثرياء الذين يمتلكون قصورا مشيدة، وينعمون بالنفوذ والجاه والسلطان، وتضطر نوارة أن تركب خمس مواصلات كى تصل لمكان عملها فى الصباح الباكر من كل يوم، والغريب والمدهش أنها لا تشعر بالنقمة أو الحسد، بمقارنة حالها، بحال خديجة \”رحمة حسن\” ابنة العائلة التى تعمل لديها، وهى فى نفس عمرها تقريبا، ولكن تنعم بكل متع الحياة، ورفاهيتها.

العلاقة بين أهل القصر وبين نواره، تحمل قدرا من الود، على عكس الصورة النمطية، للعلاقة بين طبقة السادة، ومن يعملون لديهم من المعدمين، رب الأسرة أسامة بيه \”محمود حميدة\” رجل ظريف جدا، وهادىء الطباع، يسأل نوارة هل الشعيرات البيضاء قد ظهرت فى رأسى أم لا؟ وتجيبه بدون مواربة: أيوة فيه كام شعرة بيضا. أما سيدة البيت شاهندة هانم \”شيرين رضا\”، فهى لا تثق فى مخلوق غير نوراة، حتى إنها عندما قررت الهرب من مصر مع عائلتها، تركت لنوراة كل مفاتيح القصر، وطلبت منها أن تراعى المكان، ولا تخبر أحدا أنهم قد فروا للخارج! خوفأ من أن تنالهم يد القانون والعدالة كما حدث لبعض الوزراء والمتنفذين، من رجال نظام مبارك.

الجميل أن السيناريو لم يقدم عائلة أسامة بيه، بطريقة كفار قريش، غلاظ الملامح والمسلك، بل إنهم قوم ظرفاء، رغم كونهم من ناهبى أموال الشعب، وكانوا بالطبع ضد الثورة، باعتبارها ثورة رعاع.

\”نوارة\” ليس فيلما عن ثورة يناير، ولكن عن ردود فعل طبقة  الأثرياء وأصحاب النفوذ فى الفترة الزمنية، التى تلت مرحلة إزاحة مبارك، وتمثيلية المحاكمات التى انتهت إلى لا شىء!

كل الدماء التى سالت، والشباب الذين زج بهم فى السجون، أو فقدوا أعينهم، ولم يحدث شىء، غير أن الفقراء صاروا فى وضع أشد سوءا، والذين كانوا يتلحفون بالستر ضاع عنهم الستر، والذين كانت لهم أحلام بسيطة فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لم يعد لهم صوت، بعد أن فقدوا الأمل فى أن شيئا يمكن أن يتغير. وكما قال حسن \”عباس أبو الحسن\” شقيق أسامة بيه، وهو يطلق عدة رصاصات فى الهواء، وكأنة يحارب طواحين الهواء، نحن أسياد البلد، وسوف نظل كذلك! وقد ظلوا كذلك فعلا، وكأن ثورة لم تقم، وضحايا لم يسقطوا، وربما تكون نوارة قد ادركت بالنهاية أنها كانت تعمل لدى مجموعة من اللصوص وسارقى قوت الشعب.

ليوسف إدريس قصة قصيرة وجميلة باسم \”هل كان لابد يا لي لي أن تضيئي النور؟\”، وربما ينفع أن نلقى السؤال بهذا الشكل: أكان لابد أن تقضمي من التفاحة المحرمة يا نواره؟

فيلم \”نوارة\”، هو طوق النجاة لمنة شلبى، يمكن أن تعتبره دور عمرها، حيث استخدمت كل وسائل التعبير التى يمتلكها ممثل محترف للتعبير عن البساطة والغلب والأمل والذعر، والتوتر والإحساس بالظلم.

ربما تكون منة شلبى مثل معظم نجمات جيلها اللائى ظهرن فى بداية الألفية الثالثة، لقد تم استغلالها  كوردة فى عروة جاكت البطل النجم، ولم تفلت من هذا التصنيف إلا فى أفلام قليلة جدا، وقد جاء الوقت الذى تعلن فيه عن موهبتها التى نضجت بشكل واضح، وأكيد كان لهالة خليل دور فى توجيهها، سواء من خلال السيناريو الذى اهتم بتفاصيل الشخصية، أو دورها كمخرجة.

أما \”أمير صلاح الدين\” الذى لعب دور \”على\” زوج نوارة، فهو اكتشاف لممثل لا تعرف كيف بدأ، ولكن موهبته تعلن عن نفسها،  أداء طبيعى بسيط ومقبول، ينبىء بأن مستقبلا فنيا ينتظره  لو أجاد إدارة موهبته.

محمود حميدة، عظيم رغم صغر دوره نسبيا، وكانت لحظات قبوله الأمر الواقع، واضطراره للهرب خارج مصر، من أروع مشاهده، رغم التزامه بالصمت التام، وشرود نظراته المفعمة بالغضب، وكأنه يقول لنفسه: كيف تجرأ هؤلاء الثوار على زحزحة مكانتى، وتهديد أمنى؟

شيرين رضا تكتسب أرضا مع كل دور تقدمه.

هالة خليل، تقدم مع ثالث تجاربها فى السينما الروائية الطويلة، تجربة أكثر عمقا وزخما، ولا تقل جمالا عما قدمته سابقا، فهى من المخرجين الذين لا يعملون من أجل التواجد والاستمرار وأكل العيش، ولكن  عندما يكون لديها ما تريد أن تقوله.

من أهم العناصر الفنية التى ساهمت فى تميز فيلم \”نوارة\”، كاميرا زكى عارف، مونتاج منى ربيع، رغم أن الجزء الأول من الفيلم كان يحتاج إلى ضبط إيقاع.

موسيقى ليال وطفة، مثيرة للشجن، بالإضافة لدورها فى تصعيد بعض المواقف الدارمية، وخاصة فى مشهد النهاية.

وتحية خاصة للكلب \”بوتشي\” الذى سوف ينافس شهرة الكلب \”روي\” أحد أهم شخصيات فيلم \”الشموع السوداء\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top