برقت عيناه من المفاجأة، وهو يعيد قراءة السطور المنشورة جوار صورتها.. زواج الفنانة روبي والمخرج سامح عبد العزيز.. يا نهار أسود، قالها بصوت مسموع، جعل البعض ينظر له ويتوقع أن تكون الجريدة تحمل أنباء كارثة قومية أو كونية، ولكنه سحب الجريدة وابتعد عن كشك الجرائد، وهو يكاد يسقط من طوله وقدماه تلتف إحداهما على الأخرى من فرط إحساسه بالهزيمة،
جلس على أحد المقاهي يحاول أن يسترد أنفاسه، وأخذ يقرأ الخبر عشرات المرات ويدقق في كل سطر من سطوره، لعله يكتشف أن الأمر مجرد شاعئة أو كلام جرائد! ولكن للأسف كان الخبر صحيحا، إذن فقد حدث ما كان بعيدا عن خاطره، وطارت فتاة أحلامه، التي قضى الثلاث سنوات الأخيرة من عمره، يسعى لايجاد وسيلة توصله إليها، وكان لديه ثقة – لا أحد يعلم مصدرها- في إنها سوف تقع في هواه بمجرد أن تلقاه!
\”سيد حنفى\”، هو اسمه.. يعمل في محطة بنزين بالجيزة، أنهى بطلوع الروح دراسته الإعدادية، وتنقل في العمل في ورش السمكرة، ومرمطونا في بعض المقاهي، واشتغل بعض الوقت في مطعم للكفته والكباب، وكانت مهمته توصيل الطلبات للمنازل، وهرب من صاحب المحل في رمضان الماضي، بعد أن استولى على ثمن خمس طلبات، ولاذ بالفرار من مسكنه حتى لا يصل إليه صاحب المحل، واضطرت أمه المسكينه أن تدفع للرجل مائة وخمسين جنيها من مهر ابنتها التي كانت تستعد للزواج في عيد الفطر، ومن يومها لم يعد سيد لمنزل أسرته, وانقطعت أخباره تماما.
سيد من عشاق السينما، وخاصة أفلام ومسلسلات روبي، من ساعه ما شافها ع العجلة وعقله طار، ولم يعد مكانه، كان وقتها في بدايه مراهقته وشنبه يادوب بيخط، وأصبحت روبي فتاة أحلامه ونجمته المفضلة، ووصل هوسه بها حدا يفوق الخيال، فقد أعتاد أن يجمع صورها وأخبارها ويدخل أفلامها عشرات المرات، عندما تبتسم يعتقد أنها تبتسم له، وعندما تبكي يتصور أنها تبكي من أجله.. الرجال يظلمونها في الأفلام ويسيئون معاملتها، ولكنه كان دائما لديه الاستعداد لأن يغفر زلاتها وعلاقاتها مع الآخرين ويبدأ معها من جديد.
كانت لحظة تشبه ما يحدث في الأحلام، مجرد لحظة، لكنها أحدثت إنقلابا في حياة سيد حنفي، في إحدي ليالي الشتاء الماضي، كان ساهرا في محطة البنزين التي يعمل بها، وفوجىء بسيارة شروكي تدخل المحطة، قام بتثاقل واتجه للسيارة، وفوجىء بفتاة أحلامه روبي تجلس على عجلة القيادة، وتتحدث في الموبايل بعصبية، وقف أمامها صامتا وقد عقدت الصدمة لسانه، أنهت محادثتها ودون أن تقول كلمة أعطته مفتاح خزانة البنزين وقالت له كلمة واحدة: \”فول\”.
اتجه لخزان البنزين وظل يملأ حتى بدأ السائل يسيل على الأرض، ساعتها أدرك أن الخزان قد امتلا وفاض، أعطاها المفاتيح وأعطته ورقة بمائتي جنيه، وأنطلقت بسيارتها دون أن تنتظر أن يعطيها الباقي، ظل ممسكا بالورقه الماليه، يتشممها فينبعث منها رائحة عطر، لم يمر على أنفه من قبل، وفكر مليا كيف يحتفظ بهذه الورقه ولا يفرط فيها مدى الدهر، فدسها في جيبه ودفع قيمة ما حصلت من بنزين، وهو يشعر بسعادة شديدة، وكأنه يحمل في جيبه تميمه حظه وسعادته!
لم يستطع سيد أن ينام يومها، ولا الأيام التالية، وكان يتعمد السهر في محطة البنزين كل ليلة لعلها تعود يوما، فيخبرها بما عجز عن قوله في المرة الأولى ولكنها لم تعد!
أخبره الواد كمال صديقه الذي يعمل في محل للموبايلات أنه يستطيع أن يحضر له رقم تليفونها المحمول، مقابل ألف جنيه، سوف يدفع نصفها رشوى لأحد العاملين في فودافون، ووافق سيد على الفور، وأعطى كمال المبلغ الذي طلبه، دون قيد أو شرط وانتظر على أحر من الجمر اليوم الذي يحصل فيه على رقم تليفونها المحمول، ساعتها لن يكون أمامه أي عائق، سوف يخبرها بحبه لها ويذكرها بليلة لقائهما الأول في محطة البنزين، وسوف يستجمع شجاعته ويطلب منها موعدا، وربما يبكي لتدرك مدى حبه وولهه بها.. طبعا ستوافق على أن تلقاه.
سوف تمر عليه بسيارتها الشروكي وتلتقطه من المكان الذي سوف يحدده لها، وسوف يحرص على أن يكون مكانا بعيدا، فهو مدرك أنها حريصة على سمعتها ولا تحب أن يراها أحد معه فيخبر بتوع الجرائد الذين يتصيدون الأخبار.
زغرد قلبه من الفرحة وهو يأخذ من الواد كمال ورقة بها رقم تلفونها المحمول، كان يشعر بأن ملامحها تقفز من بين الأحد عشر رقما، التي حصل عليها، أنتحى بنفسه في أحد الأماكن البعيدة عن الضوضاء، وضرب الأرقام الأحد عشر، ومع كل رقم كان قلبه يكاد يقفز من بين ضلوعه، الحمد لله أن التليفون بيرن، يعني مش خارج الخدمة ولا مقفول ولا الحركات دي.. رنة والتانية وسمع صوت نسائي يقول آلو، وبسرعة كان رده.. آلو يا روبي، أنا سيد بتاع محطة البنزين، لسه الورقة أم متين جنيه، اللي فيها ريحتك في جيبي.. روبي ما بترديش ليه؟ أنا سيد.
وجاءه الصوت النسائي يحمل بعض الدهشه، يا أستاذ ده مش رقم روبي.. النمرة غلط.
وأعاد المحاولة مرة أخرى، وهو يتساءل لماذا أنكرت نفسها؟ يمكن تكون قاعدة مع ناس، ولا يكون جوزها، قاعد معاها، أستنى شوية وأتكلم تاني، طلب الرقم فوق عن ميتين مرة، ثم فكر يبعت لها رسائل، ويقولها كلميني لو سمحتي.. أنا سيد بتاع محطة البنزين.
يومين تلاته، لا يفعل فيهما شيئا يذكر إلا الاتصال بالرقم، أحيانا يجد الخط مغلقا وأحيانا مشغولا، ولكنه لا يمل المحاولة.. إنها قضية حياة أو موت.. حايفضل وراها لحد ما ترد عليه.
وأخيرا بعد شهر كامل من محاولات الاتصال بها، جاءه صوتها مرة أخرى، هذه المرة كانت تبدو وكأنها في انتظار سماع صوته، قالت له في هدوء أيوه يا سيد.. عايز إيه؟
سيد بلع ريقه وقال لها بعتاب رقيق: ليه كده يا ست روبى.. ده جزاتي عشان بحبك.. تنكري نفسك مني ليه؟ ما أنا عارف صوتك وحافظه كويس،
فقالت له بنفس الهدوء: سيد.. الكلام في التليفون ما ينفعش، أنت قولتلي بتشتغل فين؟
بدهشه قال لها: معقولة نسيتي؟ محطة بنزين الجيزه اللي عند محطة السوبر جيت، ده أنا فاكر اليوم بالدقيقة والثانية وفاكر البلوزة الخضرا اللي كنتي لابساها، والحلق اللي كان في ودنك وفاكر كمان ريحة الميتين جنيه والله لسه في جيبي ما صرفتهاش.
أغلقت الموبايل دون أن تقول كلمة، وحاول أن يعيد الاتصال، فوجد الخط مغلق وغير متاح.
في المساء كان سيد يجلس في محطة البنزين، شاردا في صوتها وداخله شعور ما أنها سوف تفاجأه بالحضور بين لحظة وأخرى، وساعتها لن يبدد الوقت وسوف يدخل في الموضوع مباشرة، ويطلب منها بصراحة تسيبها من جوزها، فهو رجل متزوج وعنده عيال وحرام تربط نفسها بيه وتسيب واحد بيحبها ويموت فيها وفاضي لها أربعة وعشرين ساعة، وسوف تستجيب له لأنها تحبه.. طبعا بتحبه ما هي الأذن تعشق قبل القلب أحيانا، وهو صوته حلو ونحنوح، ثم الإلحاح لازم يكون جاب نتيجة.. شهرين وهو بيتصل بيها ليل ونهار.. يعني أكيد تكون اتأكدت أنه بيحبها وعايزها، والست – مهما كانت- بتحب اللي بيحبها، أفاق من شروده على صوت سارينة شرطة تدخل البنزينه وضابط برتبة ملازم يسأل أحد العمال.. فين سيد؟
فأشار العامل عليه، وفي لحظه وجد ثلاثة من أمناء الشرطة يندفعون نحوه ويلقون به في البوكس، وهو في حالة ذهول لا يعرف ما لذي حدث؟
كان سيد يحاول أن يتجنب الصفعات التي تتوالى على قفاه ووجهه، ولا يعرف من أين تأتيه، ولا كيف يصدها، ولم يسعفه الصراخ ولا البكاء، وظل يتساءل: أنا عملت إيه؟
بعد أن هده التعب، سحبه أحد المخبرين إلى مكتب أنيق واضح أنه مكتب ضابط كبير بالقسم، كان الضابط يجلس مع سيدة في الأربعينات من عمرها، تحتسي فنجانا من القهوة، قالت بمجرد أن وقع نظره عليه: هو أنت.. الله يخرب بيتك، قرفتني يا ابن الكلب.
قال له الضابط الكبير: فين الموبايل بتاعك ياللا؟
أخرج سيد تليفونه المحمول وأعطاه للضابط دون أن ينطق بكلمة.
الضابط قلب في الموبايل، وقال للسيدة: هو طالب نمرة تليفونك عشرين مرة إمبارح بس!
وقالت السيدة: والنبي يا شكري تأدبه.. عرفه أن اللي عمله ده عيب، العيال دي لازم تتربى.
فرد عليها الضابط الكبير :ما تقلقيش يا منيرة هانم حاننسيه اسمه.
سيد لا يفهم شيئا، لكن الضابط قال له: كنت عايز إيه من الهانم ياللا؟
سيد من بين دموعه: هانم مين يا سعادة البيه.. أنا أول مره اشوفها.
الضابط: أومال كنت بتتصل بيها ليل ونهار ليه؟ إوعى تكدب أحسن حااطلع ميتين أهلك.
سيد من بين دموعه: أنا ما اتصلتش بيها.. أنا كنت باكلم روبى.
واستشاط الضابط غضبا: حا تستعبط يا روح أمك.. روبي مين يا جزمة؟
وقبل ان ينطق بكلمة، وجد أياد تسحبه إلى غرفة حالكة الظلمة، وهات يا أقلام ويا شلاليت.
وعندما خرج من قسم الشرطة بعد يومين من الحادث، كان سيد حنفي لا يذكر اسمه فعلا!