ماجدة خير الله تكتب: "أخضر يابس".. أن تُعافر وتتحدى السائد لتقدم فيلمك كما تتمناه

\"\"

أن تقدم فيلمًا خارج المواصفات المتعارف عليها فى السينما المصريه، كأنك خرجت على الناس بدين جديد! أحاول أن أتخيل الرحلة التى مر بها محمد حماد مخرج فيلم \”أخضر يابس\” بين الشركات المحدودة التى تتحكم فى صناعة سينما عمرها أكثر من مائة عام، وصلت بها إلى منطقةٍ قبل الحضيض بأمتار قليلة، ولكنى أيقنت أنه اختصر الطريق وقرر ألا يخوض تجربة الطرق على أبواب تلك الشركات، ويقدم تجربته مع أول فيلم روائى طويل \”أخضر يابس\” كما أرادها تمامًا وبدون التخلي عن أى من أحلامه، بداية من عمل أفيش لا يحوي أى من وجوه أبطال الفيلم -هذا فى حد ذاته إنجاز ملحوظ- فأفيشات أفلامنا علاوة على أن معظمها مقتبس أو مسروق، فهي تخلو من الإبداع والابتكار، وغالبا لا تخرج عن كونها \”ترصيص\” لأبطال الفيلم بحسب أهميتهم التوزيعية، أو قيمة أجورهم! أو إختصار الأفيش فى نجم واحد وخلاص على كده، فالأفلام المصرية حديثة الإنتاج تُنسب زورًا إلى نجومها.
أما التحدى الثانى أو الأكثر أهمية فى تجربة \”أخضر يابس\” فهو أن أبطاله جميعاُ من الوجوه التى ليس لأي منها سابقة أعمال ويعتبر وقوفها أمام الكاميرا فى هذا الفيلم تجربة أولى وقد تكون أخيرة! بالإضافه لأن مدير التصوير محمد الشرقاوى ليس له باع مع السينما التجارية وتجاربه السابقة مرتبطة بالمخرج محمد حماد فى أفلام قصيرة قدماها معًا، يضاف للتحديات التى يمكن أن تلاحظها فى \”أخضر يابس\” فكرة الاستغناء التام عن الموسيقى التصويرية والاكتفاء بأصوات الحياة الطبيعية مثل ضوضاء الشارع و الإيقاع الرتيب لحركة المترو على القضبان، وربما تدرك مع متابعة أحداث الفيلم أن الصمت أيضا له صوت وإيقاع.
سيناريو \”أخضر يابس\” الذى كتبه المخرج نفسه، يقدم وصفًا بالصورة لحالة الشخصية الرئيسية \”إيمان\” أو الوجه الجديد \”هبة علي\”، والصورة هنا تغني عن كلمات قد تملأ كتبا، فتاة متوسطة الجمال تخطت الثلاثين، من بيئة دُنيا، ملامح وجهها لا تشي مطلقًا بما يعتمل فى صدرها من صراعات، أو فى عقلها من أفكار، كلماتها قليلة جدا، وأحيانا تكتفي بالصمت.
فى مشهد البداية نراها تقف وسط مجموعة من النباتات الذابلة، التى زرعتها خارج بلكونة حجرتها فى منزل قديم \”باشت\” حوائطه من الرطوبة وتعطنت حتى تكاد تشم رائحة العطن وأنت فى مقعدك بقاعة السينما، إيمان تنظر للنباتات الذابله دون أن تبدو على ملامحها أي إنفعالات، وكأنها تدرك أن حالها أصبح يشبه حال تلك النباتات، التى على وشك الموت، ولا سبيل لإنقاذها.
كل شىء فى حياة إيمان مًعطل، لا تأتيها الدورة الشهرية، مما يدفعها للذهاب للطبيب وعمل التحاليل اللازمة، ثلاجة الحفظ فى محل الحلويات الذى تعمل به مُعطلة أيضا، ولذلك لا تستطيع أن تعرض تورتات وجاتوهات، فينصرف الزبائن عن المحل، حياتها الأسرية معطلة فهى تعيش مع شقيقتها الصغرى \”أسماء فوزي\” ولغة الحوار بينهما معطلة، بإستثناء كلمات قليلة، عبارة عن إلحاح متكرر من الشقيقة تطالب إيمان بضرورة اللجوء إلى عمها كي تقنعه بحضور أول زياره لشاب سوف يطلب يدها، ولا يصح أن يدرك هو وعائلته أنهما يعيشان بلا سند ولا ظهر راجل!
أيمان لا تبدي انزعاجا من إلحاح شقيقتها، وتضطر أن تريق ماء وجهها مع عمها الذى يرفض التدخل، وينصحها -بنطاعة- أن تذهب لعمها الآخر الذى جاء فى زيارة قصيرة جدا لمصر، ينتهي المشهد بصمت طويل لا تنطق فيه إيمان بكلمة، ولكنك تكاد تسمع صوت صرخاتها المكتومة.
تتحرك إيمان كـ روبوت بلا روح، تلقي بجسدها داخل عربات المترو تنقلها من مكان لآخر، تسير فى شوارع وحوارى غير مهيئة للسير، كى تصل من مكان لمكان، تعود لمنزلها تجرجر خيباتها المتتالية، دون أن تشكو أو تمتعض، تحاول أن تخفي قبح الحوائط بستائر فتفشل فى إبقاء المسامير فى الحائط نظرًا لتآكلها بفعل الرطوبة، تستغني عن هذه الفكرة وتترك الحوائط على قبحها، ورغم أن السيناريو لم يقل لنا الكثير عن تجربة إيمان الحياتية، ولكننا ندرك أنها كانت مخطوبة لابن عمها أحمد، من خلال احتفاظها بخاتم الخطوبة، وكأنها كانت تخفيه عن نفسها حتى لا تتذكر أنها أنثى وكانت يوما على مشارف علاقه تؤكد لها ذلك، ولكنها فشلت وتعطلت وعادت بها إلى نقطة الصفر، كنبات ذابل يابس، لا يسر الناظرين!
هل هناك أي وجه شبه يجمع بين إيمان والسلحفاة التي تربيها؟ ربما كلتاهما تختبئ داخل قوقعتها، ولا يعرف أحد إن كانت سعيدة أم تعيسة، ربما تعيش السلحفاة طويلًا ويكفيها قدر ضئيل من الطعام ليبقيها على قيد الحياة، ولكن أي حياة هذه التي تخلو من البهجة والحركة والتواصل الحقيقي مع الآخر، هل رأى أي منا السلحفاة وهى تتزاوج؟ أكاد أجزم أن القليل منا يعرف إن كانت تلد أم تبيض! أو إنها مُعطلة تمامًا عن الإنجاب مثل إيمان؟
ساهمت الإضاءة داخل المنزل وخارجه فى إضفاء تأثير درامي يُناسب الحالة، ولم يستعن مدير التصوير بأي مصادر خارجية للضوء، حيث كان الاهتمام بالتأثير النفسى وليس الجمالى لتقديم تلك الحالة الفنية الإبداعية التى تستحق الاحتفاء والإشادة.
المخرج محمد حماد يقدم فيلمًا بلا نجوم ولا مشهيات جاذبة ولا صراعات صاخبة، وهو بهذا كمن لعب مباراة شطرنج استغنى فيها عن أهم القطع الأساسية مثل العساكر والفيل والحصان، ومع ذلك استطاع الدفاع عن الملك \”الفيلم\” وحمايته للنهاية.

\"\" \"\" \"\" \"\"

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top