كان قد اعتاد الصمت لسنوات، فلم يكن أحد يدق بابه، وتليفونه المحمول أصابه الخرس، وتخلت عنه زوجته بعد أن لاحظت أن المنتجين انصرفوا عنه، ولم يعد اسمه مطروحا في أي عمل فني، ولا حتي ضمن قوائم الأدوار الثانية أو الكومبارس، وكانت الدهشة تعلو وجه البعض وهم يتذكرون النجم الشاب، الذي كان قبل سبع سنوات، مثار حسد أقرانه وزملائه بعد أن اختاره \”الأستاذ\” ليكون بطلا للفيلم الذي كان ينتوي إخراجه ليشارك به في واحد من أهم المهرجانات العالمية، و\”الأستاذ\” هو اللقب الذي كان يُطلق على المخرج الكبير الذي وصل للعالمية من أوسع الأبواب.
في مساء ليلة من ليالي صيف سنة حاجة وتسعين، كان المذكور يجلس مع أحد أصدقائه، على كورنيش النيل.. يأكل كوزا من الذرة المشوي، دفع فيه آخر بريزة كانت في جيبه، والبريزة هي العشرة قروش، قبل أن يسخطوها ويطلقوا اسمها على العشرة جنيه! المهم أن المذكور، تنهد من الحسرة وقال لصديقه، الذي كان زميله في الحجرة الحقيرة التي استأجراها في سطح عمارة متوسطة الطول بحي العجوزة: \”آه لو الزمن يضحك لي وابقى ممثل مشهور، وياريت كمان لو ابقى عالمي زي عمر الشريف.. أصل أنا ناس كتير بيقولولي إني أشبهه.. حتى في صوتي وأسلوب أدائى\” ولم يحب الزميل أن يحبطه أو يكسر مقاديفه، فقال له: فعلا أنت تشبه عمر الشريف قوي، وتنفع تبقى نجم عالمي، لكن عشان تبقى عالمي فعلا، يبقى لازم تسير على نهج عمر الشريف وتبتدي الحكاية من أولها.
وسأله المذكور، وبعض الغباء يرتسم على محياه.. يعني اعمل إيه؟ اتجوز فاتن حمامة؟ فقال له الزميل الناصح: لأ.. تروح للأستاذ، يمكن يكتشفك ويقدمك في فيلمه القادم، وإذا حصل يا حلو، فأنا أضمن لك إنك تبقى عالمي بعد فيلم أو اثنين على الأكثر!
لم يكذب المذكور خبرا، وبات يحلم بلقاء الأستاذ، وقام بوضع خطة لملاحقته في كل مكان يذهب إليه.. في النادي وفي موقف السيارات، وتحت العمارة التي يقع فيها منزله، والأخرى التي يقع فيها مكتبة!
ثلاثة أشهر من الملاحقة الدائمة، والأستاذ مش واخد باله من هذا الكائن اللحوح الذي يطارده في كل مكان، إلى أن جاءت ضربة الحظ، عندما رفع الأستاذ عينيه فجأة وهو يمد يده ليمنح الفتى الذي كان ينظف له زجاج سيارته، وسأله هو أنا شفتك فين قبل كده؟ وكانت فرصة عظيمة \”للمذكور\”، حيث قال بسرعة: أنا الفراش اللي بقدم لحضرتك القهوة.. أنا اللي وقفت أزق عربية حضرتك لما عطلت من يومين على كوبري أكتوبر.. أنا بياع الجرائد اللي بيجيبلك المجلات والجرايد لحد بيتك.. أنا عامل الأسانسير.. أنا صبي المكوجي.. أنا وأنا، وقبل أن يستطرد المذكور ويكمل حكايته، أستوقفه الأستاذ وسأله والدهشة تعلو وجهه، وبتعمل في نفسك كل ده ليه؟ ده إنت باين عليك ابن ناس ومتعلم، ولم يتردد\” المذكور\”
إذ خطف يد الأستاذ ونزل فيها بوس، حتى سحبها الأستاذ منه بالعافية وقال: إيه يا ابني عايز إيه؟
وهنا وجدها \”المذكور\” فرصة عمره، وقال في رجاء ومذلة: \”عايز أمثل يا أستاذ.. أنا موهوب والله، حتى جربني.. اعملي إختبار كاميرا.. خدني اعمل فيا اللي أنت عايزه.. أنا تحت أمرك.. بس المهم أنول شرف رضاك، واطلع في أفلامك.. إن شاء الله أبقي كومبارس\”
وحتى يتخلص منه الأستاذ، قال له وهو يتحرك بسيارته: تبقى تجيللي المكتب، وإنطلق الأستاذ بالسيارة وبعدها بدقائق كان قد نسى كل شىء عن\” المذكور\” حتى ملامحه طارت من مخيلته، ولم يتبق إلا صوته الذي كان يزن في أذن الأستاذ بين الحين والآخر.
ولأن الحظ يأتي أحيانا لمن لا يستحقونه، فقد حدث ما لم يخطر على بال أي ممن يعملون مع الأستاذ، ويعتبرهم حوارييه وتلاميذه، فقد دبت خناقة كبيرة بينه وبين نجم آخر أفلامه، وهو الذي كان يراهن عليه، ويعد له مشروع فيلمه الجديد، وتطورت الخناقة إلى خصومة تلتها قطيعة، وحلف الأستاذ الذي اشتهر بالعناد، أن يأتي بأي كلب من الشارع ويصنع منه نجما، بل وصل الأمر بأن طلب من بعض العاملين في مكتبه أن ينزلوا الشارع حالا، ويسحبوا أي ناس ماشيه، وأقسم الأستاذ أن يحول واحدا منهم إلى نجم سينمائي خلال أسابيع قليلة، وهنا قفز \”المذكور\” الذي كان الأستاذ قد نسيه تماما، وقال بحماس: \”وحاتدور على أي حد من الشارع ليه؟ ما أنا موجود أهه\”، وسأل الأستاذ من يقف جانبه، هو مين ده؟ فأجابه في خجل: ده يا أستاذ مصيبة سودة ولزقة إنجليزي.. ظهر في حياتنا من سنتين كده، وادعى إن حضرتك اللي بعته يشتغل في المكتب، ومن ساعتها وإحنا مكسوفين نكلم حضرتك أو نسألك إنت محتاجه في إيه؟ ونظر إليه الأستاذ مليا، وتأمله من فوق لتحت ومن تحت لفوق، ثم قال لمساعديه: خدوه حموه وصوروه وهاتولي الصور، وبعدين بكره هاتوه المكتب الصبح أما نشوفه حاينفع ولا لأ؟
وأعلن الأستاذ في الصحف أنه وجد بديلا لنجم أفلامه الذي خرج عن طوعه، وأن فيلمه القادم سوف يكون من بطولة \”المذكور\”، وهو وجه جديد ومُبشر وفيه كل الصفات التي تجعل منه نجما عالميا، وكان الأستاذ يقصد إغاظه نجم أفلامه الذي تمرد عليه، لكن النجم القديم لم يهتم بكل ما قاله الأستاذ، وكان قد عقد العزم على هجر الأضواء، واشترى أرضا زراعية وكام عجل، وقرر أن يتاجر في المواشي!
وبقدرة قادر تحول \”المذكور\” إلى نجم سينمائي وبطل في فيلم ضخم الإنتاج من إخراج الاستاذ، وسافر فعلا لمهرجانات عالمية، وتعلم بعض كلمات من اللغتين الفرنسيه والإنجليزيه، كان يستخدمهم عمال على بطال حتى يوحي بأنه مثقف، وخريج مدارس أجنبيه! لكن يبدو أنه نسى نفسه، وصرح في لقاء تليفزيوني أنه أصبح المفضل لدى الأستاذ، وأن الأخير لا يستطيع أن يقدم فيلما إلا وكان من بطولته، وجن جنون الأستاذ، وقرر أن يلقي بالمذكور في الشارع ليعود من حيث أتى غير مأسوف عليه، دون أن يذوق طعم العالمية التي كان يحلم بها، بعد أن تصور أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى منها!
عاش \”المذكور\” عدة أشهر أشد سوادا من قرن الخروب، وكان كلما طرق أحدهم باب منزله، يتصور أنه رسول من مكتب الأستاذ، سوف يستدعيه للعمل في فيلمه القادم، لكن الانتظار طال.. بعد أن قضى على كل مدخراته، وهجرته زوجته بعد أن يأست منه، ومن عودته للعمل مرة أخرى، وطال انتظاره، وقعدته بلا عمل لأكثر من سبع سنوات، عجاف!
وفي إحدى ليالي شهر رجب، كان المذكور يجلس على مقهى في وسط البلد.. يحاول أن يلفت نظر المارة، لعل أحدهم يتعرف عليه أو يلقي عليه بتحية، لكن طالت جلسته بلا نتيجة، وأخيرا وجد شخصا يقبل عليه متهللا وعلى وجهه ابتسامه واسعه، وقال له: \”الحمد لله إني وجدتك أخيرا\”، وسأله المذكور خير.. كنت عايزني في حاجه؟ فأجابه الرجل.. شوف بقى فرصة العمر اللي ماتجيش مرتين.. بين إيديك دلوقت يا عم.. بس إوعي تضيعها.. فيه مخرج سوري متعلم في أمريكا ومعاه الجنسية، جاي يعمل مسلسل تاريخي في مصر، والراجل مايعرفش الممثلين بتوعنا، ويظهر إنه مستعجل عشان يلحق رمضان، وعايز واحد ينفع بطل عربى، من بتوع الفروسية والذي منه، وأنا بصراحه دليته عليك.. هو ماكنش سمع باسمك، عشان زي ما قلتلك كان عايش في أمريكا.. إيه رأيك بقى؟ وسال لعاب المذكور، وهو يسأل عن تفاصيل العمل، وتأكد أنهم سوف يدفعون له أجرا كبيرا، وأنه سوف يظهر في كل حقات المسلسل التي تزيد عن مائة حلقة تغطي شهور رمضان وشوال وذو القعدة وشوية من ذو الحجة!
قرر أن يقبل العرض في الحال قبل أن يطير لممثل غيره، وقبل شرط من أتى له بالبشارة في الحصول على نسبة عشرين بالمائة من قيمة العقد!
وفي أول لقاء له مع المخرج السوري القادم من أمريكا، وهو أيضا منتج المسلسل التاريخي، قال المذكور وهو يقرأ بنود العقد، وقبل أن يقوم بالتوقيع: \”بس أنا ليه شويه شروط\”، وأجابه المخرج السوري بكل أدب: \”تكرم حبيبى، ولو.. بعيوني ضيف اللي بدك إياه وإحنا حاضرين\”، ووجدها المذكور فرصة، وطلب أجرا يليق بنجم آخر أفلام الأستاذ، على ألا يقل عن ستة مليون جنيه زي يسرا وليلى علوى، كما طلب طاقم عمل خاص به، من كوافير ولبيس واتنين مساعدين.. واحد يدلكه، وواحد يطرقع له صوابعه، ومعاهم واحد يهرش له، بالإضافه لكرافان خاص مجهز بالكامل يقيم به أثناء فترة التصوير، وقبل أن يكمل بقية طلباته نظر له المخرج السوري بشراسة، وانقلبت سحنته، وقال له: \”جري إيه يا روح أمك.. إوعي تكون فاكرني جاي من أمريكا بجد.. ده أنا متربي في حواري إمبابه، وإذا كنت إنت عالمي.. أبقى أنا أمريكاني\”، وضاعت آخر فرصة من يد النجم المذكور!