(قصة قصيرة ساخرة)
كانت الساعة تقترب من الثامنة مساءاً، ومع ذلك كان الطريق الدائري، مكتظا بعدد ضخم من السيارات التي عجزت عن الحركة لسبب ما، طالت الإشارة لأكثر من نصف ساعة، وبدأ قائدو السيارات في التذمر وإطلاق نفير سياراتهم في إلحاح بغيض، فرائحة المكان لا تطاق، حيث تنبعث روائح كريهة نتيجة وجود أطنان من مخلفات البشر، التي لم يتم إزالتها لأيام كثيرة.. حرارة الجو مع إرتفاع نسبة الرطوبة، زاد إحساس الناس بالضيق والهوان، وبدأ بعض من أصحاب السيارات يخرجون منها لالتقاط نسمة هواء قد تأتي من هنا أو هناك، أو على الأقل يتمردون على هذا السكون المفروض عليهم، والذي جعلهم أسرى في أماكنهم، عاجزين تماماً عن الحركة، ولو كان الأمر بيدهم لترك كل منهم سيارته مكانها وإنطلق إلى حال سبيله، بدلا من تلك العطلة التي لا يعرف أحد متى ولا كيف تنتهي، ومع ذلك كان \”رمزي البستانى\” قابعاً في سيارته الفولفو الحديثة، غير مكترث بكل ما يحدث حوله.. سيارته مكيفة وزجاج الشباك يعزله عن الضوضاء ويمنع عنه الرائحة العفنة، بالإضافة إلى أنه كان يتابع من خلال تليفزيون صغير برنامج \”نجم اليوم\”، الذي يعلن عن إستضافته خلال الساعة القادمة، وكان يتلقى في نفس الوقت بعض الإيميلات التي تأتيه على تليفونه المحمول، الذي يعتبر أحدث صيحة في الجيل الثالث للمحمول.. يعني عالمه كان يسير بشكل طبيعي إلى حد كبير.
في هذه اللحظة لم يكن شيئاً على الأرض يمكن أن يثير أعصابه أو يجعله يخرج من حالة الإنسجام التي وضع نفسه فيها، وكان قد استغنى عن صوت التليفزيون، لأن الفقرة التي كانت تقدم في البرنامج لم تكن تعنيه على الإطلاق.. مشاكل المواطنين المغفلين الذين وقعوا ضحية \”المستريح\”، الذي استغل طمعهم في أرباح وفوائد ضخمة، وجمع أموالهم في ضربة أخرى قاسمة للظهر، بعد ضربة الريان التي لم يتعلم منها أحد.
كان البرنامج يستعرض بعض حالات لمواطنين يصرخون هلعاً، ويستندجون بالمسئولين ليردوا لهم أموالهم، التي منحوها طواعية \”للمستريح\”، لكن كل هذا لم يكن يعنيه في شىء.. كل ما يعنيه هو الفقرة التي سوف يرد فيها على إفتراءات النقاد وهجومهم على فيلمه الأخير، لقد اتفق مع مقدم البرنامج أن يظبطه تماماً، ولا يترك فرصة لأي مكالمة تفلت على الهواء من أي ناقد أو مواطن يمكن أن يهاجم فيلمه، بل إنه كان قد أعد بعض المكالمات من أتباعه للثناء على فيلمه، والتأكيدعلى أنه أهم حدث فني في الألفية الثالثة، وأنه سوف ينطلق باسم مصر في المحافل الدولية وغيرها من الأكاذيب، التي لا تنطبق مطلقاً على الفيلم الذي كان دليلا صارخا على قلة الموهبة والإدعاء والسفه.
بدأ طابور السيارات يتحرك ببطء شديد، ومكالمات تليفونية من معدي برنامج نجم اليوم تسأل بإلحاح عن موقعه وعن الوقت الباقي كي يصل للاستوديو بمدينة الإنتاج، وكان في كل مرة يجيب أنه سوف يكون داخل المدينة بعد أقل من عشر دقائق!
أما مقدم البرنامج فكان يؤكد بين اللحظة والأخرى، أن النجم الكبير رمزي البستاني سوف ينزل ضيفاً على برنامجه، الذي يشهد أكبر نسبة مشاهدة، وبالتالي أكبر نسبة إعلانات، وصل رمزي إلى باب الاستوديو بمدينة الإنتاج.. وجد في إنتظاره كاميرات البرنامج، حيث أصر المخرج أن تستقبله الكاميرا منذ لحظة نزوله من السيارة وحتى دخوله الاستوديو.
طابور من الفتيات الحسناوات كن في إستقباله، وكل منهن تحمل باقة من الزهور الحمراء.. حالة هائلة من الإحتفاء بالنجم الوسيم، الذي عاد للأضواء بعد خمس سنوات قضاها في إستثمار أمواله في مجال العقارات، بمشاركه رجل أعمال خليجي، كان شرطه الوحيد أن يعود رمزي للسينما، حتى يقول في بلاده إنه شريك للفنان رمزي البستانى.. مجرد مقدمة أو بداية لإقتحام الأوساط الفنية، والاجتماعية، وبالتالي سوق المال على إتساعه.
لقد ساهم رجل الأعمال الخليجي في تمويل الفيلم من الباطن، ودفع ما يقرب من ثلاثين مليون جنيه بعد أن أقنعه رمزي بأن الفيلم يحمل مواصفات عالمية، وسوف يشارك به في كل المهرجانات، مما يفتح أمامه أسواقا جديدة، ترفع إحتمالات المكسب المتوقعة! لكن ما حدث للفيلم من فتور في الاستقبال من الجماهير، ومن هجوم عنيف عليه من النقاد، وضع رمزي في موقف شديد الخطورة، وهدد كل مشاريعه الإقتصاديه بالإنهيار، لكنه بسرعة عاد ولملم أفكاره، ووجد أن عليه أن يحول الهزيمة إلى نصر مبين، ليقنع شريكه الخليجي بأن كل شىء تمام، ومكاسب السينما لا تأتي دفعة واحدة، لكن إيرادات الفيلم يمكن أن يحصلها خلال ثلاثة أعوام على الأكثر، ولذلك قرر رمزي أن ينشط إعلاميا ويكثر من ظهوره على القنوات المصرية، والعربية، وعلى أغلفة المجلات، والصفحات الفنيه بالجرائد، وقد نصحه صديقه الإعلامي بأن إنطلاقه من خلال برنامجه \”نجم اليوم\”، سوف يضمن له زفه إعلامية تفوق خياله، وأنه وضع من أجله كل شىء تحت السيطرة، واستبعد أي نوع من الأسئلة التي يمكن أن تسبب له حرجاً، ووعده بالتحكم في الإتصالات الهاتفيه حتى لا يفاجأ بإتصال من ناقد سخيف – من إياهم – يقلب الفرح مأتماً!
في التاسعة والنصف ظهر رمزي على الشاشة بعد أن قام فريق ضخم من خبراء الماكياج بوضع لمساتهم على وجهه لإخفاء الهالات السوداء التي أحاطت بعينيه، والإنتفاخ الذي بدا واضحاً على جفنيه.. عشرون دقيقة من أنامل مدربة على إخفاء العيوب، خصمت من عمر رمزي عشرين عاماَ على الأقل! فبدا أكثر شبابا ومرحا، وجاء اللقاء مفعماً بالمديح، والثناء، لكن كاد الأمر يفلت من أصحاب البرنامج، عندما أصرت فتاة صغيرة لا يتجاوز عمرها الثانية عشرة، أن تتحدث للنجم الشهير على الهواء، وجاء صوت الفتاة، وهي تقدم نفسها قائلة: \”أنا بسمة.. عمري إتناشر سنة.. أنا مش باروح سينما، ولا بنزل من البيت خالص.. أنا من يوم ما اتولدت وأنا قاعدة على كرسي.. بابا صرف فلوس كتيرعشان يعالجني، لكن هو موظف على قده، وماما باعت كل صيغتها، وأنا سمعت إن فيلمك إتكلف تلاتين مليون جنيه، وجاب فلوس كتير، وكان نفسي أشوفه.. يا تري ممكن تساهم ولوبمبلغ بسيط في علاجي، وأوعدك لو قدرت أمشي حاروح كل أفلامك في السينما\”!
دارت الدنيا بالنجم السينمائي الكبير، وشعر بحالة من الإرتباك، لكنه وجد أن عليه أن يرد على الفتاة، التي انتظرت رده، الذي سوف يسمعه ملايين المشاهدين في مصر والعالم العربي، وإنطلق صوته وهو يؤكد للفتاة بأنه سوف يتصل بأسرتها وبأطبائها، ليحدد معهم نوع العلاج الذي تحتاجه، ويرسلها لأكبر مستشفى في العالم يمكن أن يعيد إليها القدرة على الحركة.
بالنسبة له.. كان ما قاله مجرد محاولة للخروج من المأزق، وتخطي حالة الحرج، التي سببتها له محادثة الفتاة، وبعد أن إنتهى اللقاء، سأله مقدم البرنامج، حاتعمل إيه مع البنت اللي كلمتك؟ قال رمزي دون أن يفكر: حاحلقلها طبعاً! إيه شغل الشحاته ده؟ هو أنا الشئون الإجتماعية؟! وخرج رمزي من الاستوديو ودخل سيارته الفولفو الفارهة وقادها عائداً لقصره في مدينة الشيخ زايد!
وفي صباح اليوم التالي، إستقبلت أسرة الفتاة عشرات المكالمات من مواطنين من مصر والعالم العربي، يتسابقون لدفع نفقات علاجها، وتم تحديد موعد مع أحد كبار الجراحين في مستشفى فرنسي، إستقبل عن طريق البريد الإلكتروني كل تفاصيل الحالة والأشعة والتحاليل التي أجريت للفتاة، وأعلن إستعداده لإجراء الجراحة ووضع إحتمال أكثر من تسعين بالمائة لنجاح العملية.
وإستعدت الفتاة للسفر لإجراء الجراحة، ورافقها للمطار أسرتها وآلاف من المواطنين، جاءوا لوداع الفتاة وإمطارها بالدعوات الطيبة، وكان المطار يعج بالبشر، وكاميرات مصوري الصحافة والقنوات الفضاية، وقد تصادف سفر النجم رمزي البستاني في نفس اليوم، وفوجىء بهذا الزحام الرهيب، ولما علم أن الجماهير جاءت من أجل الفتاة نسمة، شعر بخجل عظيم وتوارى من الخلق، وأخفى وجهه حتى لا يتعرف عليه أحد، ثم إختفى في إحدى دورات المياه، حتى سمع بأذنيه صوت المذيعة الداخلية للمطار تعلن إنطلاق الطائرة المغادرة لباريس، بعدها اطمأن وخرج من مخبئه وسارع في خطاه، وكأنه يخشى أن يراه أحدا، لكن أحداً لم يلق له بالاً!