من الأفلام التى تعيد الثقة للسينما المصرية، لأنها تلتزم بأصول المهنة وتحترمها، حيث تعتمد على سيناريو محكم لأحمد عامر مأخوذ عن قصة سينمائية لإبراهيم البطوط، وهو ما يؤكد أن الفيلم الجيد عموده الفقرى السيناريو الاحترافي الذى يبدعه خيال فنان، موهوب يعرف أن كل تفصيلة فى الفيلم لابد وأن يكون لها استخدام، وأن الأحداث لابد وأن يؤدى أحدها للآخر فى نمو وتصاعد يصل بها إلى نقطة الذروة، وللسيناريست مطلق الحرية أن يبدأ سرد حكايته من أى نقطة هجوم يريدها، وينطلق بها للأمام أو يعود لأحداث سابقة إذا كان فى هذا تدعيم لما يريد أن يطرحه، عن تاريخ الشخصيات وعلاقة كل منها بغيرها.
آفة السينما المصرية السيناريو الملفق، وزاد عليها موضه الورش التى تضم شخصيات متنافرة، ومتباينة المستوى والاتجاه، يسعى كل منهم لإضافة مشهد أو آخر دون مراعاة للخط الأساسي للفيلم فيخرج جنينا مبتسرا فى معظم الأحيان، المخرج شريف البنداري يعزف بمهارة شديدة سيمفونيته البصرية مستخدما العناصر السينمائية التى ساعدته لتقديم أحد أهم أفلام السينما المصرية خلال الخمس سنوات الأخيرة.
ربما كان اسم الفيلم لافتا للنظر وهو كذلك فعلا، لكن تفاصيله وحكايته وتركيبة شخصياته، سوف تسحب اهتمام المتفرج من اللحظات الأولى، بمشهد يقفز بك إلى قلب الحدث، دون ثرثرة، حيث تتابع الكاميرا \”علي معزة\” أو الممثل علي صبحي وهو يحمل على كتفيه دبدوبًا ضخمًا، واضح أنه سوف يهديه إلى شخص عزيز على قلبه، ولكن الميكروباص الذى يستقله يقف فى لجنة، حيث يلفت نظر الضابط \”آسر ياسين\” منظر الدبدوب فتبدأ غدة الشك والرذالة تتضخم لديه، ويصر على تفتيش الدبدوب وتمزيقه بآلة حادة وكأنه يقتل غريمًا له، فى مشهد يثير الضحك والغيظ معا، أداه آسر ياسين بمهارة لافتة، مستخدما كل قدراته وتعبيرات وجهه فى تكثيف الانفعال بهدوء ثم بغل وجنون مكتوم يصل لمنتهاه بعد أن تبرز أحشاء الدبدوب فيشعر الضابط وكأنه انتصر، فى حين تمر فى نفس اللحظه سيارة بها بعض البلطجية، ومعهم فتاة مخطوفة \”ناهد السباعى\” تستنجد وتصرخ، ولكن لا يلتفت لها الضابط ولا أى من رجاله لأنهم كانوا مستغرقين فى متابعة موقعة الدبدوب، وهو إنعكاس سريع لما يحدث فى مصر الآن، حيث تستغرقنا الأحداث التافهة وتسحب اهتمامنا، بينما نغض الطرف عن الكوارث الحقيقه التى تحتاج إلى تدخل فورى!
ندخل مع \”علي معزة\” إلى الحارة الشعبية التى يعيش بها، لنعرف لماذا اطلقوا عليه هذا الاسم، فهو متعلق بمعزته \”ندى\” ويعتبرها حبيبته التى يحافظ عليها بروحه، مما يجعله مثار سخرية أهل حارته، ومع ذلك فهم يحترمون شغفه بالمعزة ندى، ولا يحاول أي من جيرانه أن يخطفها أو يمسها بسوء، أما أم \”علي معزة\” سلوى محمد علي، فهى مثل كثير من الأمهات المصريات، تعتقد أن ابنها لديه مشكلة ما نتيجه عمل أو سحر، وتهدده من حين لآخر بأنها سوف تذبح حبيبة القلب وتعمل عليها فته لأهل الحارة، ولكنها لا تفعل لأنها تدرك مدى ارتباط ابنها بالمعزة!
طبعا قد يجد المتفرج فى علاقة علي بمعزته أمرا غريبا، وغير منطقى أو نوعا من الهزل، ولكن فى حياة البشر أمورًا أكثر غرابة، حيث يرتبط الإنسان أحيانا بعد أن يمر بأزمة ما، بأى كائن حي \”قطه، كلب، معزة، سلحفاة.. إلخ\”، ويعتبره بديلًا عن البشر الذين لا يحسنون التعامل معه أو فهمه.
مع استغراقنا فى تفاصيل الأحداث، ندرك سبب تعلق علي بمعزته لدرجة الجنون! وعلى الجانب الآخر، يقدم السيناريو الطرف الثانى فى الحكاية، وهو إبراهيم \”أحمد مجدي\”، شاب موسيقي يشهد له الجميع بالعبقرية، ويعمل فى ستوديو متواضع لتسجيل الأغانى الشعبية التى يطلق عليها أغانى بير السلم، ولكن أزمة إبراهيم أنه يُصاب بحالات من الصرع تفاجئه من حين لآخر نتيجة تداخل الأصوات فى رأسه، مما يسبب ضجيجا مزعجا يعجز عن التخلص منه، وحالته الغريبه تلك وصلت إليه بالوراثة وأدت الى انتحار أمه بعد أن عجزت عن مقاومة هذا الضجيج المخيف داخل رأسها، أما الجد فقد أصاب نفسه بالصمم حتى يتخلص من تلك الأصوات، ومع ذلك بقي له قدرته على عزف البيانو كعواد مشهود له بالموهبة، ونتيجة ضغط أم علي معزة، وأصدقاء إبراهيم يقرران الذهاب إلى دجال \”صبرى فواز\” لإيجاد حل لارتباط علي بمعزته، ولإنقاذ إبراهيم من الأصوات التى تعبث برأسه، فيقرر أن كل منهما معمول له عمل، موضوع فى أعماق البحر، وحتى تتحقق لهما النجاة والتخلص من مفعول العمل، يعطى لكل منهما عدة زلطات \”أحجار\” ليرميها فى المسطحات المائية الموجودة فى مصر \”البحر الأحمر والبحر الابيض والنيل\”، ويقرر علي معزة وإبراهيم الذهاب فى رحلة لرمى الأحجار كما نصحهما الدجال، وتتشابك الأحداث وتنمو العلاقات، من خلال تلك الرحلة التى نتعرف خلالها على طبيعة كل شخصية وماضيها، ومبررات عذابها.
على عكس ما تقدمه الأفلام الحديثة عن مواصفات الحارة الشعبية، فلن تجد فى فيلم علي معزة وإبراهيم نموذجا للبلطجية، ولا الشخصيات الغريبة التى تطل علينا فى كل الحارات السينمائية، حتى مجموعه الأشقياء الذين يلاحقون علي وإبراهيم لأنهما أنقذا نور أو صباح \”ناهد السباعى\” من بين أيديهم، سوف تجدهم أقرب إلى الهبل منهم للبلطجة!
الفيلم يقدم تفاصيل وأحداث تجبرك على الضحك أحيانا والإحساس بالشجن أحيانا أخرى، تتفاعل مع الشخصيات وتحبها رغم أنها لا تعاني من الأزمات المعروفة للفقراء التى تطرحها الأفلام الحديثة، والعلاقات بين الناس طريفة ومنطقية ومثيرة للتعاطف وتدرك أن هؤلاء لا يزالون يحتفظون بكثير من مميزات المواطن المصرى كما نعرفها، من شهامة وطيبة واحترام لقيم الصداقة، فالفتاه نور أو صباح التى تعترف ببساطة أنها تعمل فى الدعاره، يقرر صديق علي معزة أن يتزوجها، ويتعامل معها بشهامة ومرجلة، \”أم علي معزة\” تهدده أحيانا بأنه سوف يعود يوما فلا يجد معزته ندى، وعندما يغضب ويهدد بترك المنزل تستعطفه أن يبقى وتعده ألا تلجأ إلى تهديده مرة أخرى.
الناس كلها حلوة رغم أزماتهم الواضحة وأرواحهم المعذبة، الحوار ساخن وضاحك ومتفق تماما مع طبيعة المواقف، تدفق فى الأحداث، ونمو فى الشخصيات، حتى تصل إلى نقطة النهاية فتشعر أن ساعتين من عمرك قد مرا فى لحظة من المتعة السينمائية الخالصة.
آداء عفوي صادق من علي صبحى وأحمد مجدى وسلوى محمد على وناهد السباعى وأسامة أبو العطا وآسر ياسين، كاميرا عمرو فاروق تقدم تفاصيل الحارة الشعبية وما تنتجه من تشوه سمعى وبصرى، مونتاج حرفى ملفت، موسيقى ساهمت فى خلق أجواء مكملة لحكاية الأبطال، المخرج شريف البنداري يقدم معزوفة سينمائية تعوضنا عن عشرات الأفلام السخيفة التى تحملناها بشجاعة وصبر، ويعيد للسينما المصرية كثيرا من الاحترام والثقة التى كانت مفقودة.