كريم فوزي يكتب: مكتبة الكرامة

المشهد الأول:

منذ حوالى سنتين، ومع بدايه ولعى بالقراءة وعدم توافر المال الكافى لشراء الكتب، كان قرار الذهاب إلى مكتبة الجامعة، هو القرار الأنسب لىِّ، كانت الفكرة المُسيطرة علىِّ هى التواجد في مكان يحتوى على الكثير من الكتب.
لكن فى جامعه حلوان كان الأمر يختلف قليلًا، فالمكتبة المركزية لا تعنى الإطلاع أو البحوث العلمية أو القراءة، الوضع مختلف شكلًا ومضمونًا، المكتبة المركزية تعنى المكنة والـ Free wife \”.
امتلكتنى الدهشة من عدد الكتب وتنوعها فبالمقارنة مع مكتبة مدرسة الإعدادى، هناك فرق كبير لدرجة تجعلنى انبهر، وزاد انبهارى عند رؤية كتاب يتحدث عن حسن البنا بخير!
روعة المكتبة من حيث التصميم المعمارى والنظافة والتنسيق والإدارة الأمنية كانت أشياء مثيرة للتساؤل، عند مقارنتها مع الشكل العام للجامعة والمستوى المتدنى فى الأمن، كان على بعد قريب من المكتبه، صاحب مكتبة يفترش حيزا فارغا يتوسط المسافة بين كلية خدمة اجتماعية وكلية الآداب، كان يفترش فرشته لكى يبيع فيها كتبهُ غير الأصلية، تحت عين وسمع الجامعة، ولا يبالى أحد بتلك الجريمة الحادثة من سرقة الكتب وإصدارها بشكل غير شرعى وبيعها مما سوف يؤدى في النهايك إلى تدمير الكتابة وإغلاق الكثير من دور النشر، لكن لم يكن هناك أحد يلقى بالا لهذا، لأنه بكل بساطة يدفع أرضية للمكان.


المشهد الثانى:
منذ بحوالى أربعة شهور ذهبت إلى النادى العام فى منطقتى وقصدت المكتبة على أمل أن أجد فيها ما ينفع للقراءة دون اللجوء إلى دفع المال، لكنى أسفت على ما وجدته، فلا مكتبة توجد ولا كتبا، الكتب متربه ومرصوصة بشكل همجى، من حجم كومة التراب الساكنة فوقها عرفت أنها لم تنظف منذ شهور، تساءلت: لماذا لم يهتم بتنظيفها أحد؟! فأخبرنى أحد العمال أنها كتب ولا أحد يأتى للقراء، فالمجتمع المصرى يتعامل مع الأسف مع الثقافة على أنها مجرد رفاهية وليست أمرا إلزاميا يتحتم علينا جميعًا أن نصبح مدركين للواقع المحيط بنا داخليا وخارجيا وأن نتعلم أن التاريخ يعيد نفسه فنتجنب تلك الأخطاء.
فى الوقت الذى تتسابق فيه الدول على تثقيف شعبها وعلى تشجيع القراءة، كالتجربة البرازيلية فى تشجع السجناء على القراءة، لعلمهم جيدًا بأهمية القراءة وأن التطرف لا يواجه بالسجن أو بالجلد، فالقمع لا يولد إلا تطرف أكثر، لذلك يحرصون على جعل السجناء يقرأون لأن الحل الوحيد لمواجهة الجريمة وشَتَى أنواع العنف والتطرف تكمن فى الثقافة، وإدراك أننا جميعًا سواسية.
وبالنظر إلى تاريخ مصر الحديث، نجد أن ما فعله محمد على حين قام بإرسال البعثات إلى أوروبا للنهضة بمصر وجعلها قوة تُخيف دول عظمى مثل فرنسا وإنجلترا، لم يفعلها بقوة السلاح فقط، بكل ما ساعده فى جعل مصر دولة عظمى كان التعليم وإصلاحه.

المشهد الثالث:
خطوة إقامة مكتبات الكرامة، كان لابد من إعطائها الفرصة لتنتشر وتعم مصر ويأخذ عليها الأستاذ جمال عيد وساما من الدولة لحسن صنيعهُ، فتجربة مكتبة الكرامة التى كانت شرارة أمل فى نفوس البسطاء من أبناء مصر الذين يعيشون على هامش الحياة، يعلمون جيدًا، أن السلطة قد نسيتهم تمامًا، وأنهم فى نظر السلطة مجرد أرقام وإحصائيات ليس لها أى قيمه، فلم تتذكرهم السلطة إلا حين أخذت على عاتقها قتلهم بكل ما تيسر لهم من سبل، من غلاء كل شئ وجعل حياتهم تزداد كآبة وشقاء أكثر مما هى عليهِ، بدواعى نهضة مصر، التى لن تحدث.
الآن ومع الأسف يطفو الصراع الطبقى ويشتغل أكثر وأكثر تحت رماد الإجراءت التقشفية التى تتخذها السلطة ضد الفقراء وحدهم، وتوهمهم بأن هذا لمستقبلهم الذين لن يستطعوا أن يروه لعدة أسباب، منها عدم توفر السلع الأساسية التى يراها البعض سلعا استفزازية، أو لعدم توافر الأدوية إلا بأسعار لا تتناسب مع دخلهم المحدود.
فى ظل هذا العفن تم قفل مكتبة الكرامة، السلطة الآن لا تحارب جمال عيد، فهو لن يتأثر، لكن البسطاء الذين لن يجدوا متنفسا لهم إلا فى كل ما هو سيء كالمخدرات والتطرف مثلا، هم من سيتأثر.
المجتمع صار الآن يشبه رواية \”يوتوبيا\”، وأرجو أن يكون بين الوزراء أحد يستطيع أن يقرأها لأننا على مشارف تحققها.
حين استفسر الأستاذ جمال عيد عن سبب إغلاق مكتبة الكرامة، لم يجد ردا سوى أنها التعليمات، السلطة تتعامل مع الطبقات الكادحة \”بمبدأ لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل\”
اتساءل: هل غضبت السلطة لأن هناك أحدا يبعث الأمل فى نفوس البسطاء الذين لا يرون أملا فى المستقبل، فيكون التطرف هو السبيل لهم؟!

مفهوم الدولة يتآكل عند البسطاء، كيف تريد ممن لا يجد بيتا يأويه أو طعاما يسد به رمقه أن يحب هذا الوطن، أو يعمل على نهضته؟ ألم تتعلم السلطة من محمد على، ألم تتعط من مبارك وحربه مع التكفيريين فى التسعينيات، ألم تتعلم أن مواجهة التطرف الفكرى تتم بالتنوير والتعليم؟

ولا أقصد هنا التعليم الحكومى، فهو متدنٍ لدرجة أوصلت مصر للخروج من التقييم العالمى لجودة التعليم بعد أن احتلت المركز 138 من أصل 140 مركز.
حين انزل الله تعالى القرآن الكريم، كانت أول الآيات \”اقرأ\”! فهل تقرأ السلطة الأوضاع، وما هو بين السطور لتعي ما يجب محاربته والتركيز عليه، وما يجب تركهُ ليعم مصر وينتشر فى سلام وسلاسة؟
هل إغلاق مكتبات الكرامة للأستاذ جمال عيد، هو الحل لمواجهة التطرف، أو الإصلاح الاقتصادى؟
هل تعتقد السلطة بإجراءاتها التعسفية وإغلاق مكتبات الكرامة، أنها ك ستقتل الأمل فى المستقبل؟

تجربة مكتبة الكرامة توضح شيئين، الشئ الأول أن هناك أملا حقيقيا فى المستقبل وفى أبناء مصر الصادقين، والشئ الثانى أن عقليه التضيق أصبحت متهالكة لدرجة التفكك والرهبة من مجرد مكتبات.
لذا اعتقد أن عقلية السلطة سوف تهزم قريبًا فى حربها ضد الثقافة والتنوير، لأنها عقلية عتيقة من الماضى الذى سرعان ما سيندثر ويختفى عما قريب، وإن ظل لبعض الوقت جاثما على نفس المستقبل، فالمستقبل آت لا محالة.. تلك سنة الله فى الكون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top