كريم عرابي يكتب: زواج صالونات

لا أتذكر أكنت في السابعة أم الثامنة من عمري وقتها، حينما رأيت تلك الفتاة التي لا أذكر أيضا صلة القرابة التي تربطنا سويا، وهي تبكي بحرقة وتردد لوالدتها: \”حرام عليكم.. مش عايزة أتجوز جواز صالونات.. إنتوا كده بتبيعوني\”.

وقعت علي تلك الجملة كالصاعقة، وأخذت تتردد في رأسي، وأرقتني كثيرا.. ترى ما هو جواز الصالونات اللعين هذا، وما علاقة \”الصالونات\” بالموضوع؟!

ولأنني كنت طفلا \”زنان\” ونهم للمعرفة –آنذاك- وبعد إلحاح على أحد الأقارب، وافق أخيرا أن يشرح لي ما أجهله، فقال لي ساخرا من فضولي الذي لا يناسب حداثة سني: إن في هذا النوع من الزواج ترشح الأم عروس معينة لابنها الذي قد آن وقت إكماله لنصف دينه الآخر، الذي لم يُكمل أوله بعد!

ويذهب صاحبنا لبيت العروس ويجلس معها في \”الصالون\” ليتعرف عليها ويحكم إذا كانت ستناسبه أم لا، في مدة لا تتجاوز النصف ساعة غالبا! وهنا تتدخل عوامل كثيرة وعجيبة لتؤثر على قراره، كوزنها ولون بشرتها وحجم صدرها مثلا! وهنا البنت لا حول لها ولا قوة ولا رأي.

وعلى قدر ما أراحتني كلماته وأشبعت فضول عقلي، على قدر ما أفزعتني، حيث لم يكن لي عهد بقساوة الدنيا، وأذكر أنني قررت وقتها قاطعا ألا يكون هناك صالون لعين في منزلي، ربما أستبدله بغرفه أربي فيها تنانيني الصغيرة، أو أستضيف فيها أحد أبطال المسلسلات الكرتونية الذين لطالما كنت أعشقهم، حتى لا يتسنى لأحدهم الزواج من ابنتي على هذه الطريقة الشنيعة.. وما أدراك بسذاجة الأطفال!

تمر السنوات وأجد نفسي جالسا في كافيه مع بعض الأصدقاء من الجنسين، وهم في مثل عمري تقريبا، وإذ بإحداهن تٌتحفني بوجهة نظرها الفذة في الزواج وتسخر من الحب الذي ما هو إلا \”لعب عيال\”، وبعد تجاربها العاطفية الفاشلة التي تعدت الأربعة، قد اقتنعت أخيرا أن \”جواز الصالونات\” هو الحل الأمثل، وأن الحب الحقيقي سيأتي بعد الزواج، وكيف لا والله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ 21

( سورة الروم).

لن أجادل، فأنا في غنى عن تهمة إزدراء الأديان، لكن هل تذكر أولئك الأطفال الذين كانوا يلقون بحقيبتك دوما، وعندما تُقدم على الثأر، يخبرونك لائمين أن حقائبهم تحوي كتب دين؟ دعني أخبرك أنهم صاروا تلك البنت عندما كبروا!

في الآونة الأخيرة، صار يتردد كثيرا على مسامعي خطبة إحداهن بتلك الطريقة التي لم تفن بعد، والأغرب أنهم لم يعدوا يبكون بحرقة كقريبتي، بل صاروا يتقبلون الموضوع بصدرٍ رحب، ولا يمضي أسبوع على خطبتهم، وتجد حساباتهم على مواقع التواصل تزخر بصورهم مع \”عريس الغفلة\”، ويصحبها دوما قلوب حمراء تعكس مدى عمق تلك العلاقة!

ولعل آخرهم صديقتي تلك، وهي التي لطالما صدعتني بحديثها عن الظلم الذي تتعرض له المرأة في المجتمع، وتاريخها المشرف بمواقفها الداعمة للمساواة بين الجنسين، وانتقادها الدائم لي لأني -حسبما يقولون- لدي نوع من العنصرية تجاه النساء، إلا أنها فاجأتني بنبأ خطبتها المفاجئة، وأثارت سخطي عندما أخبرتني بأنها لا تعرف عن خطيبها ذلك إلا شكله، وبعض المعلومات الأساسية.

في بادئ الأمر ظننت أن أهلها ربما قد تدخلوا وأكرهوها على ذلك.. لكن لم يمض الأسبوع الذي حدثتكم عنه، وكانت صورتها معه، وعليها بعض القلوب الحمراء قد نُشرت على حسابها، مصحوبة بجملة \”أنت حُبي الأول والأخير\”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top