في فيلم \”غرفة\” يمر الأبطال بصراع ربما مر علينا جميعا، وهو صراعك ما بين ماض أليم، لكن على الرغم من ألمه أنت تشعر بالألفة تجاهه، وبين مُستقبل ملئ بالاإحتمالات وهو الشئ المخيف، بل المُرعب أحيانا كثيرة.
تدور أحداث الفيلم في البداية في غرفة صغيرة، تم حبس \”جاك\” وأمه فيها، بعيدا عن كل شئ، لا يدخل النور لتلك الغرفة سوى من فتحة سقف صغيرة. ربت الأم جاك على أن تلك الغرفة هي كل ما يوجد في العالم، تلك الغرفة هي العالم نفسه، أتم جاك عامه السادس للتوّ، وكل ما يعرفه عن العالم.. هو تلك الغرفة الصغيرة، الصغيرة جدا تكاد تختنق لمجرد رؤيتها.
بعد يوم من اتمام جاك لعامه السادس، تقرر أمه أن تواجهه بالحقيقة التي طالما أخفتها عنه، \”العالم كبير جدا لدرجة أنك لن تستطع تصديق ذلك\” تقولها أمه ثم يصرخ جاك، عقله غير قادر على تفسير تلك الحقائق، فتلك الغرفة هو كل ما يعي في هذه الدنيا، المرحاض وقشر البيض المستعمل وبكرات المناديل الفارغة هم أصدقائه وهم كل ما يعرف بجانب أمه و\”نيك الكبير\”، وهو اللقب الذي يلقب به الشخص المتسبب في حبسه هو وأمه داخل الغرفة.
يُصنف الفيلم على ثلاث مراحل بالنسبة لي: السجن والصدمة، ثم التصالح.
السجن:
في البداية كان يدور الفيلم فقط داخل الغرفة الصغيرة، ترى \”جاك\” الولد الصغير يتحدث مع أصدقائه \”صباح الخير أيها الحمام، صباح الخير أيها العنكبوت، صباح الخير أيها السرير\”، ثم يقوم بتمرينات الصباح هو وأمه، ويحتفل بعيد ميلاده السادس كأن شيئا لا يحدث. هو غير شاعر بتلك المأساة التي تعيشها والدته كل دقيقة من كل يوم، فكما قلت، هذا العالم هو كل ما يعرفه، رأيت تلك المشاهد في منتهى الجمال، لأن على الرغم من القهر، استطاع جاك أن يصنع أصدقاء ويكون علاقات، فأصبح كل شئ حوله حيا ويتكلم ويسمع، كل شئ صديقه، هو صديق تلك الكائنات ومرتبط بهم لدرجة أنه ثار على أمه لأنها قتلت فأرا كان صديقه على حسب كلامه. تاق الطفل داخله للحياة حتى لو لم ير من تلك الحياة سوى بعض المظاهر المحدودة التي سيتذمر بسببها أي طفل آخر.
أما أمه، فهي مثقلة بحمل شديد، كيف سأصبح أما جيدة وأنا حبيسة تلك الجدران الأربعة، هي على عكس جاك، شاعرة بالمأساة تماما.. هي دخلت تلك الغرفة بعدما رأت الحياة وتمتعت بمظاهرها، تموت بداخلها قطعة كل يوم تدرك فيه أن الخروج من هذا المكان مستحيل، وأن حياتها حتى وإن لم تبدأ هنا كـ \”جاك\”، لكنها حتما ستنتهي هنا.
الصدمة:
بعد نجاح \”جاك\” في تحرير أمه ونفسه من السجن في تلك الغرفة، يعودان إلى بيت جدته القديم، حيث تعيش جدته وزوجها، يرفض جاك الحديث مع أي شخص سوى أمه، هي الشخص الوحيد الذي يعرفه في هذا \”العالم الكبير\” على حد وصفه. تحدث صدمة داخل دماغ جاك، هو يرى العالم من عيني طفل، منذ أيام قليلة لم يكن يعلم بوجود ذلك العالم من الأساس، يرفض الحديث مع أي شخص، بداخله شئ يتوق لتلك الغرفة، يتوق لأصدقائه الذين يألفهم ويألفونه، يتوق للمرحاض وبكرات المناديل ودولاب الملابس الذي كان ينام فيه. هو يتوق للعالم الصغير المألوف له، أما ذلك العالم الكبير جداً، هو يشعر فيه بالوحشة والوحدة وأحيانا الملل، كل شئ يدور فيه بسرعة كبيرة، هو في غنى عن ذلك، فقط يريد أن يمارس رياضة الجري ذهابا وإيابا في الغرفة التي تكون مساحتها على أقصى تقدير هي ثلاثة أمتار فقط لا غير.
عندما يعودان لحياتهما الطبيعية تظن كمشاهد أن أمه هي الشخص الوحيد السعيد بذلك التحرر، أما في الحقيقة، فتلك المرأة التي تحملت سبع سنوات عذاب في الغرفة، مرت ربما بنفس الصدمة التي مر بها جاك وربما أشد، فها هي تعود مرة أخرى لعلاقات قد تكسّرت، وتفاسير مطالبة بها، تجد صعوبة شديدة في إصلاح ما قد انقطع وتكسّر عبر السنين، علاقتها بوالدتها ووالدها محطمة تماماً، في نفس الوقت تشعر بذنب يثقل قلبها لأنها ربما تكون قد أضاعت على نفسها فرصا كثيرة كان من الممكن أن تحرر فيها جاك لكن بدونها، في تلك اللحظة التي تدرك فيها هذا تقول لـ جاك \”لم اكن أما جيدة بما فيه الكفاية،\” فيرد جاك ببراءة الأطفال ويقول \”لكنكِ أمي\”
لا تستطع أمه أن تتعافى بعد السنوات السبع، فتذهب لمصحة ما تتعافى، وبسبب ذلك الحدث تحديدا تبدأ المرحلة الثالثة في الفيلم.. التصالح أو الإندماج.
التصالح:
في خروجك من داخل دائرة الراحة شئ ما من الحريّة، فعندما غابت أم جاك عنه، كان جاك يواجه العالم لأول مرة بمفرده تماماً، معه جدته وصديق جدته، لكن أمه.. الشئ الوحيد الذي يألفه غائبة عن المشهد، كان من الممكن أن يعطيك المخرج نهاية حزينة وربما واقعية، لن يقدر جاك فيها أن يتحمل العالم الكبير ويعود لقوقعته، أما هنا فحدث العكس تماماً، عندما غابت عنه أمه استطاع جاك أن يتواصل مع العالم لأول مرة، أن يكون صداقات ليست مع مراحيض أو سرائر، بل مع بشر حقيقيين. وفي النهاية تغلبّت أمه على الإحساس بالذنب، أو هكذا أريد أن اصدق، وغفرت لنفسها شيئا لا اعتقد أنه خطأها من الأساس.. نجحا في مواجهة العالم مرّة أخرى، كأن المخرج يحاول إخبارنا أن الأمل ليس خرافة، وأن الإنسان سيميل دائما للحياة والحب والعلاقات، حتى وإن عاش معظم حياته بمنأى عن كل ذلك، وأن الحياة والوقت قادران تماما على شفاء مشاعرنا، وأن الأحداث السيئة مع الوقت لن تصبح سوى مجرد ذكريات، وأن في الحياة الكثير من الجمال يستحق قطعا أن نحارب لأجله.
ينتهي الفيلم بمشهد عودتهم للغرفة، فقط كزيارة بناء على طلب \”جاك\”، يدخل جاك للغرفة فيشعر أنه تم تصغيرها بطريقة ما، تقول له أمه أن ذلك فقط بسبب فراغها من كافة الأشياء التي اعتاد أن يراها، لا تصمد أمه كثيرا أمام كم الذكريات المؤلمة التي تحملها الغرفة، فتطلب منه أن يذهبا، يودع جاك أصدقاءه لآخر مرة \”الوداع يا مرحاض، الوداع يا سرير، الوداع يا دولاب الملابس\”، ثم يذهبا.
كان الفيلم لا يدور حول المرأة كما هو متوقع من تريللر الفيلم، بل كان يدور حول الطفل، وهو بالمناسبة من أجمل الأدوار الطفولية السينمائية التي شاهدتها في حياتي، كانت بري لانسون بارعة في تجسيد كافة أبعاد دور الأم المشتتة الحائرة، رأينا ذلك في تعابير وجهها ونظراتها لضوء الشمس في شباك الغرفة ولطفلها ولأمها.
التمثيل بشكل عام كان هو قاعدة الفيلم الأساسيّة، آداء بري والطفل هو أساس الفيلم، اعتمد التصوير والإخراج بشكل كبير على تعابير أوجه الممثلين، الأمر الذي كان سيخرج كإخفاقة كبيرة، لولا أن الممثلين كانوا أكثر من كافيين للفوز بذلك التحدي.
في النهاية بدلا من أن ينظر جاك للعالم الصغير خلال الثقوب في دولاب الملابس الذي اعتاد أن ينام بداخله، أصبح ينظر للعالم بأعين مفتوحة وبدون أي حواجز، العالم والحياة كلها أمامه هو وأمه يعيشها، وهي أيضا لم تعد حبيسة تلك الغرفة، أمامها كل العمر لتعوض جاك ونفسها عن السنين الضائعة، وهذه في نظري كانت رسالة الفيلم، بل ربما تكون الرسالة التي يعطيها لك الزمن عند كل مأساة تواجهها ثم تمرّ، ستستمر الحياة دائماً، بعد كل حدث أليم ستستمر، حتى لو استمرت المأساة سبع سنوات طوال.. بداخلك الحياة وستستمر.