\”نيويورك\” في أي فيلم، عادة ما تعني التحضر والتجديد، فهي مفعمة بمظاهر حداثية، نيويورك دائما متفوقة عن أي مكان آخر في كل شئ، ولو بقدر ضئيل، خصوصا لـ (آليش) بطلة الفيلم، فتاة في خمسينيات القرن العشرين، قادمة من أيرلندا لتبحث عن نفسها، أو لتكتشف نفسها إن جاز التعبير.
في بداية علاقتي بالسينما، دائما ما كنت اتساءل: ماذا يريد الفيلم أن يخبرني؟ وكنت أُصاب بالإحباط الشديد عند مشاهدة فيلم لا يحمل في طيّاته أي رسائل، ثم نضجت وأدركت أخيرا أن الفيلم حالة، ستصل لك إن كان من المُقدر لها أن تصل إليك.. فيلم \”بروكلين\” هو أدق وصف لهذه الحالة، لا يعطيك فيلم \”بروكلن\” أية رسائل أو أجوبة، فقط يعرض لك حالة ما، سترى فيها البطلة تمر بأحاسيس عديدة، حتى إن لم تكن قد مررت بها في وقت من الأوقات، حتما تستطيع أن تتفهم تلك الأحاسيس.
الإحساس الأول: الاشتياق إلى المنزل
أحب أن أعتقد أن الفيلم يدور حول فكرة الوطن، وبكلمة \”وطن\” أعني مكانا نجد فيه أنفسنا، ونشعر فيه بالاطمئنان.. ماذا تعني كلمة وطن؟ أهو مكان تعيش فيه؟ أم شخص تألفه؟ أم عائلة تحتويك أم ماذا؟ رحلت آليش عن المنزل لبروكلن لتبحث عن نفسها، في المقابل لم تجد شيئا سوى الوحشة والوحدة، وذلك الألم يعتصر قلبها بسبب اشتياقها لأيرلندا، كانت تبعث لشقيقتها كل آن وآخر، تُخبرها بأنها تشتاق لها ولأمها كل يوم وكل لحظة من كل يوم.
كان هذا هو التحدي الأول والذي تمر به آليش في النصف الأول في الفيلم، النصف الذي تعيشه في بروكلين، كيف ستتغلب على ذلك الإحساس، تسأل القس، فيجيبها أنه سوف يمر، سوف يمر لشخص آخر، يعطيها إجابة مبهمة تماماً.. متى سيمر؟ كيف سيمر؟ من هو ذلك الشخص؟ لن تعرف أبدا، كل ما يمكنها أن تفعله هو أن تنتظر ذلك الشعور بالوحشة أن يمر، آملة أنه في المستقبل ستشتاق لعائلتها بقدر أقل.
أثناء معايشتها لتلك المأساة، وجدت \”توني\”.. ذلك الفتى الإيطالي الوسيم الذي يعمل بالسباكة، تقع في حبه في وقت ضئيل أو هكذا تعتقد، نرى \”آليش\” سعيدة أخيرا بعد فترة من المعاناة والوحدة، الوحدة التامّة، فلم تستطع \”آليش\” حتى أن تكون صداقات في بروكلن، لكن هل نجح الحب في شفاء مشاعرها وجعلها تتغلّب على إشتياقها لوطنها؟ لا.. فكان حُب آليش لتوني هو حب دافعه الوحيد هو الوحدة، كان أشبه بالتأقلم أكثر من كونه حبا، كانت تلك طريقة لا وعي آليش للهروب من الواقع عن طريق خلق حالة من الحب لتنسى فيها نفسها، فلا تفكر كثيرا في ذلك الألم الذي يعتصر معدتها كلما فكّرت في أيرلندا.
هذا النوع من الحب لا يصنع المعجزات، فقط يجعلك تريد أن تقتل نفسك بشكل أقل، أو هكذا قالت آليش.. هي وجدت في توني شخصا قادرة على أن تبكي بقربه، بدلا من أن تبكي بمفردها، وجدت في توني شخصا يشاركها المأساة ويجعلها قابلة للتجاوز، لا لشخص يجعل المشكلة تختفي بإستخدام سحر ما، فكان حبها لتوني مجرّد إلهاء جيّد، إستخدمته آليش كي تنسى ولو لبرهة إحساسها بالإشتياق لوطنها.
الإحساس الثاني: التردد
وهو الذي يدور في النصف الثاني من الفيلم، عندما تعود \”آليش\” لأيرلندا بعد زواجها من توني بساعات معدودة.
تعود آليش لأيرلندا ليس لأي شئ سوى لمواساة والدتها، تعود لحياة كانت قد تجاوزتها، لأصدقاء ربما نسيتهم، كانت تلك الحياة هي السبب لمغارتها أيرلندا في المقام الأول، لكن تلك المرّة كان هناك بريق غريب لم تستطع هي نفسها تفسيره \”لماذا أستمتع بوقتي هنا؟ لماذا أصبحت أحب هذا المكان فجأة؟\”.. تلك كانت الأسئلة التي تدور في ذهن آليش، هي عليها العودة لبروكلن، فهناك ينتظرها زوجها، لكنها في نفس الوقت غير سعيدة تماماً بكون زواجها بتوني هو السبب الوحيد في رغبتها للعودة.
أثناء وجودها في أيرلندا تقابل \”آليش\” توم، يقضيان وقتا ممتعا، يرقصان معاً، يتحدثان معاً، يذهبان للشاطئ معاً.. الأمر الذي فعلته لأول مرة مع \”توني\”، بل إنها ذهبت لترى والديه، تمر آليش بمأساة عظمى، هل زواجي من توني هو السبب الوحيد الذي يدفعني لأعود لبروكلن؟ ماذا لو استقريت هنا؟\” ولم لا؟ فلديها وظيفة وأصدقاء وأم لترعاها وأيضا لديها زوج محتمل، ليس مجرد زوج، لكنه الزوج ذو الأوصاف المتكاملة، هي شاعرة بالتردد والذبذبة، أتترك كل هذا من أجل \”توني\”.. الفتى الذي كان معها في أحلك أوقات حياتها، أم تمكث في أيرلندا لتعيش حياة واعدة تحلم بها أي فتاة؟ في النهاية تضغط الظروف على آليش لتعود لبروكلن، فتودع أمها للمرة الأخيرة وتذهب.
هل تحمل تلك النهاية أيه رسائل؟ هل تحمل أي إجابات؟ قطعا لا، فقد أُجبرت على الذهاب.. هل وجدت آليش وطنها في بروكلن وتوني؟ هل غادرت آليش للتو وطنها وتوم عائدة إلى سراب؟ أم أن قلبها يقبع في وسط البحر ما بين البلدين، كما قالت لشقيقتها في الجواب من قبل؟ هل عرفت آليش أصلا معنى كلمة وطن، أم أنها ادركت أن الوطن مجرّد كلمة تطورت على ألسن الناس كتفسير لمشاعر الألفة والإطمئنان؟ هل هي حقا تحب توني، أم تحب توم، وبالسفر لبروكلن تكون ظلمت نفسها؟ هل الحب كان هو حقا الدافع وراء عودتها لبروكلن، أم هو خوفها من المواجهة، أم ماذا؟ لا نعلم حقا، لعل آليش نفسها لا تعلم.. لا تجيب الحياة على تلك الأسئلة قط.
في النهاية أرى فيلم \”بروكلن\” على أنه تجسيد لمعاناة الإنسان عموماً، فكلنا يبحث عن وطن.. كلنا يبحث عن إحساس بالاستقرار والألفة، بعضنا يجده، والبعض يظن أنه وجده، والبعض الآخر –بل معظمنا- يقضي معظم حياته بحثا عن ذلك الوطن، خلال رحلة البحث هذه، قد تعثر على الحب، ذلك المُسكن الأعظم، إذا وجدته.. اعلم أنك محظوظ، وحدهم المحظوظون يجدون الدواء في عالمنا هذا.