من المعروف علميًا أن مدة ذاكرة السمك قصيرة للغاية، ولا تتعدى عدة ثوانٍ، لكن مؤخرًا أثبت العلماء خلال دراسات حديثة أن السمك له ذاكرة قد تصل إلى 5 أشهر متواصلة، أما ذاكرة الذبابة فلا تتجاوز بضع ثوانٍ، تنسى بعدها ما عرفته، لذلك تحوم حولك، وعندما تحاول ضربها تفلت منك وتعود إليك بعد هذه الثواني وقد نست، فيكون مصيرها أن تقضي عليها فى المرة الثانية أو الثالثة. لست أدرى ما الذي أصابني حينما تذكرت الفرق بين ذاكرتيهما، ربما لأنهم من أكثر الكائنات قربًا لذاكرة البشر، وربما لأنهم أعادوا لي ذاكرتي بفقدانهم ذاكرتهم، تذكرت لحظات لم يكن فى حسباني يومًا أننى سأعيشها بهذه الدقة وهذه التفاصيل.. \”مذبحة ماسبيرو\”، ربما وأنت تقرأ هذه الكلمات تستعيد ذاكرتك أنت أيضًا وربما تصر على النسيان، ربما تستطيع أن توثق شهادتك، وربما تفتقد القدر الممكن من الصراحة مع الذات.
هذا المقال أُعد خصيصًا للتذكير، أُعد ليكون دليلا مع حكاياته ومع ألمه، يكفيني أن تسجل أنت أيضًا شهادتك عن تلك المذبحة لتكون لك توثيقا وشهادة حية، تعود إليها كلما شعرت بالألم أن حقوق الشهداء لم تأت بعد، وأننا لازلنا نعاني من ذاكرة الذبابة التي أفقدتنا إنسانيتنا.. اليوم، مذبحة ماسبيرو مر عليها خمس سنوات.
لكن دعوني أؤكد لكم ما حدث، فمذبحة ماسبيرو التي أنصفنا القضاء فيها وقد أتى بحقوق الشهداء وحكم لنا ووقف بصفنا وحصلنا على كل ما نريد، وتقدمنا بشكوى واحدة لحظة القتل، وقد تمت تلبية نداءاتنا ولم نضطر إلى الذهاب للمحاكم على مدار الخمس سنوات الماضية سوى مرة واحدة فقط، وقد حكم على المتهمين بالسجن المشدد، وقد صدر أمر بمعاقبة الجناة، فلقد أعطتنا الدولة حقنا فى المواطنة، وأكدت أننا كلنا مصريون وأن المواطنة هي التي تحكم، وصدر قانون موحد لبناء دور العبادة منصفًا لحق الأقباط بعد سنوات طويلة، وقد حظي أهالي الشهداء بتكريم الدولة، وأغمضوا جفونهم ليلًا فى حالة مطمئنة، وقد زال عنهم همّ حقوق أبنائهم.
هل صدقتني؟! هل كلماتى لاقت مكانًا فى عقلك؟! هل استطعت أن تتجاهل معرفتك بالحقيقة وتسبني على هذا الزيف؟!
فى الحقيقة إن فعلت هذا، فقد أصبت.. أجعلني أقدم لك الحقيقة على طبق من ذهب، ربما لأنك لم تسمعها من قبل، وربما لأنك تعاني من ذاكرة الذبابة التى أصابت كل المصريين.
منذ يوم المذبحة، تم فتح ملف للقضية -مباشرًا- من النيابة العسكرية، وقد قمت بتقديم طلب للاستماع لأقوالي أمام النائب العام، وتم تلبية النداء، حيث فتح ملفان لقضية ماسبيرو، أحدهما أمام القضاء العسكري، والآخر أمام القضاء المدني، وتم سماع شهادتي أمام النيابة العسكرية والقاضي العسكري، حيث تم البت فى القضية بثبوت القتل الخطأ لثلاثة جنود للشهداء المدهوسين، وتم الحكم عليهم أحكاما تتراوح ما بين العامين لثلاثة أعوام، وهم مجندين كانوا يؤدون الخدمة العسكرية، أما الشق المدني فقد تنحى القاضي ثروت حماد عن القضية قبل البت فيها، وتولاها قاضي تحقيق جديد، ولم يستدعني أحد حتى يومنا هذا لسماع أقوالي عن المذبحة.
خمس سنوات ونحن لم نتردد يومًا فى تلبية نداء القضاء لسماع شكوانا، خمس سنوات ونحن نرصد الحقيقة فى كل مكان، نرصد حقوقا سالت أمام مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون، خمس سنوات ولم يسمعنا أحد سوى ضمائرنا التى قررت أن تحيا رغمًا عنا وعن ألمنا وعن صوتنا الذي بات يُقتل فينا رغمًا عنا.
لم تكن ذكري ماسبيرو يومًا عاديًا من أيام المصريين، بل كانت قلبًا ينزف دون توقف، ولكن لأننا فقدنا جزءا كبيرا من إنسانيتنا، فقد أصبحنا أشبه بالذباب، ولم نحصل حتى على مكانة السمك، فبعض أنواع السمك لديها القدرة على التعرف على أماكن طعامها لمدة خمسة شهور متتالية على الأقل، ولكن الذباب لا يستطيع يا صديقي أن يتذكر، فلقد نسي البعض وربما لست أنت -ولكني اقول البعض- أن هناك شهداء فقدوا حياتهم وفقدوهم أحباؤهم، فقط لأنهم طالبوا ببناء كنيسة وبمواطنة حقيقية وبقانون بناء دور عبادة عادل ومنصف، ولكن بعد موتهم لم نحصل على شيء، فالكل أراد، ولكن إرادتنا شيء وإرادتهم شيء آخر.
يا صديقي.. أكتب شهادتك لأبنائك، ربما لن تأتى اللحظة التى تعترف فيها بذنب أنك أصبحت أشبه بالذبابة فى ذاكرتها، رغم أن روحك تئن من ألم ما رأيت، ومن ذكرى ما شهدت.
أكتب شهادتك أمام الله والعالم، فأنا أدرك أن الله فاحص القلوب والكلى، ولكن الكتاب المقدس يقول: \”وتعرفون الحق والحق يحرركم\” (يو 32: 8)