استجمعت قواي لكي اكتب ما يدور بذهني، لم اكن يوما أدرك أنني سأكتب نعيك الرابع، وكأني ألتمس من السماء ألا تجعل الشمس تغيب وألا يأتي القمر ليلا حتى لا تمر الأيام وتمضي إلى حيث لا عودة، فدقات الساعة تسير إلى الأمام ولا أحد هنا في هذا الكوكب يصنع لي ساعة تعود إلى الخلف، فما منا إلا أن نتذكر لحظاتك وابتساماتك ونمضي إلى الأمام، لقد أيقنا ذات يوم أن ما حلمنا به كاد يتحقق وكادت الأيام أن تفي بوعودها وها نحن اليوم بدونك نسترجع أيامك وأحلامك وأفراحك دون مشاركتك لنا، ربما تطل علينا من السماء وربما نطل عليك نحن من الأرض، ففي كل ليلة قمر مكتملة، أتذكر ذلك القمر يوم مذبحة ماسبيرو حينما خفت ضوءه وأمتنع عن أن ينير لنا الطرقات حتى نعود سالمين، لم نكن ندرك وقتها أنه يخون ما عاهدنا عليه.. أن ينير الطريق ويحتوي العشاق ويمنح الأمل للمنكوبين.. فها هو القمر الذي عاهدنا أنه لن يتركنا، فلقد فعلها وتركنا.
نعم إنها الذكرى الرابعة، وقد جفت الكلمات في فمي فلم يعد لدي ما أقدمه لمن يقرأ تلك الحروف، لكن أعلم أنها ستصل للقلوب التي تتألم حزنا لفراق أحبابها، لكنها لا تستطيع الكتابة بعد، حينما تحلم وتصحو في غفوة ذلك الحلم الجميل على صدمه مدرعة سارقة للأرواح، ستجد أن كلماتك قد جفت، حينما تبني قصورا واهية لحقوق دماء سالت على يديك وتمر السنوات دون قصاص، ستجد أن كلماتك قد جفت، حينما ترى وتسمع وتتكلم وكأنك من عالم آخر يريد تدمير الوطن ستجد أن كلماتك قد جفت، حينما يطعنك بخنجر الخيانة أقرب من لديك لمجرد أنك تحاول أن لا تقتل صوتك في قلبك، ستجد أن كلماتك قد جفت، حينما يدعون أنك إخواني وأنت مسيحي تؤمن بالمسيح وبصليبه وتتناول من جسده المقدس، ستجد أن كلماتك قد جفت، حينما يقتلون حلمك في أن تُكمل مسيرة حياتك وأنت ناجح، تحت شعار الخيانة \”خيانة وطن\”، ستجد أن كلماتك قد جفت، حينما تجتاح من حولك حروف السب لتصل إلى الأعراض وأنت تحاول تجنبها لأنهم لا يدركون كم هي مؤلمة تلك الوصمات، ستجد أن كلماتك قد جفت.. حينما، وحينما، وحينما….
وقتها فقط ستدرك أنه عليك أن تتشبث بالماضي.. تحمل كل همومك على عتبته.. ترمي كل أحمالك على قبر ذلك الذي قُتل، لكنه لن يموت.. وقتها فقط سترى العالم بنظرة مختلفة.. ستراه يائسا بائسا يسبح وسط أمواج الكذب والتخوين والألم والخوف والذل والمهانة، وقتها فقط ستدرك أنك لست وحدك ممن حمل وصمه الدم.. ستجد مثلك كثيرون يبكون وينوحون ويبحثون عن ذويهم وسط المشرحة التي تحوي الكثيرين منهم.. الأحياء قبل الأموات.. صديقي لست وحدك في هذا العالم، فلقد رحل عنا شهداء هم أطهر وأنقى وأجمل من أن ننسى قتلاهم ومن أن ننسى سبب قتلهم ومن أن ننسى وقت ذكراهم ومن أن ننسى واجبنا تجاههم، أحببناهم بصدق ولأن حبهم هذا عظيم كان عظيما ثمن حبهم لنا.
هذه الكلمات لن تنعي مايكل مسعد فقط.. بل تنعي ابنك وابنتك وأخاك.. بل تنعي أهلك وأقاربك، كتبت الكثير عن مايكل كشهيد، لكن كلماتي هذه عنك أنت.. تحتويك أنت.. تتألم لألمك أنت.. تبحث عن شيء مضيء بداخلك، لازال يبحث عن النور.
إنها حقا الذكرى الرابعة، لكنها كالأولى، فالكل يائس، فالكل محبط، فالكل متألم، فالكل لازال يبحث عن بريق أمل، لكن البعض من يصل.. البعض من يدرك ذلك الدم المسفوك في الطرقات، البعض يرى على أنامله لونا خافتا كلون الدماء، لن يفارق ذاكرتنا ولن يفارق أحلامنا ولن يفارق مستقبلنا، طالما أنه لم يفارق ماضينا غصبا عنا.
مايكل مسعد شهيد مذبحة ماسبيرو رحل ورحل معه كثيرون.. حملوا معهم أمل وحب وأخوه وبنوة وصداقة وأحلام، لكنهم لم يحملوا عنا حبهم في قلوبنا ولا ذكرياتهم، فلنبقى ثابتين لأجلهم.. ثابتون لأجل حقوقهم.. ثابتون لان هذه الذكرى الرابعة، لكنها كالأولى، فلم يتغير شيء من حولي.. فهل تغير شيء من حولك؟!