جذبتني بعض الأفكار التي أطلقها الأستاذ جمال عيد على منصته في تويتر حول حملة \”بداية\” إلى تناول مسألة أخرى، لا تتفرع بالضرورة عن نقاش هذه الحملة، وليست أيضا بالفرعية نسبة لها أو غيرها. لكن من المفيد التذكير أن قرابة أحد عشر عاما تفصلنا عن ميلاد حركة \”كفاية\”، وهي التي كانت في أحسن أحوالها \”تجمعا\” يضم شخوصا ومنظمات ومجموعات انتظم عقدها في الاتفاق على ضرورة أن \”لا توريث ولا تمديد\” وأن حكم مبارك آن له أن يتوقف. وهناك عدة سمات ينبغي الالتفات إليها في محاولة رسم صورة للبيئة المحيطة بعمل الحركة آنذاك.
ومن هذه السمات، انسداد أفق العمل السياسي المنتظم والهادف إلى التغيير. وإن كان من شأن الإقرار بهذه السمة أن \”يُسيء\” إلى مجموع الأحزاب \”الشرعية\” والعاملة في المجال العام في ذلك الوقت؛ فلا بأس! وإن كان من شأن إبراز تلك السمة أن يقود إلى تحليل طبيعة المساحة السياسية المتاحة آنذاك؛ فذلك بسيط وغير معقد: لم تكن موجودة وما كان موجودا هو مجرد \”الوهم\” بكونها قائمة ومُتاحة.
وشهد المراقبون في الفترة الممتدة بين نهايات 2004 و 2007 ظهورا بارزا لحركة \”كفاية\”، وأقر بعضهم بأنها اختطفت الأضواء من الأحزاب القائمة (منها ما هو أيديولوجي ومنها ما هو قوميٌ أو يعتاش على أطلال ما تبقى من أفكار القومية).
والحقيقة أن وجود مؤسسات، ومبان وموظفين وبعض من المناصرين، لا يعني اثراء للحياة السياسية في أي مجتمع. وواقع أن هناك أحزابا مرخصة تمارس نشاطا دعاويا، أيا كان حجمه، لا يعني بالضرورة توفر منابر للنقاش والجدال واشتباك وجهات النظر على نحو يُفضي إلى حيوية وفاعلية اجتماعية وسياسية تسمح للفاعلين بأخذ أدوار محددة في سياق تشذيب صورة وبنية المجتمع.
وبالرغم من ذلك، فقد ساد الرأي في تلك الفترة، أن معجزة ظهور حركة كفاية، واستقطابها السريع لآلاف الأعضاء والمناصرين، ستؤدي في أحسن الأحوال إلى إلقاء حجر صغير في مياه راكدة ركود الأبدية. لم يكن كذلك للحركة برنامج أو رؤيا طويلة الأمد (وذلك لتجنب استخدام مصطلح الاستراتيجية)، وكان سهلا أن تقع فريسة لنقاشات وجدالات داخلية، برز بعضها إلى السطح حين أصدرت الحركة بيانا بتأييد تصريحات وزير الثقافة السابق فاروق حسني ضد الحجاب. وكيف لها ألا تقع في ذلك المطب؛ فهي ليست حزبا وليست تنظيما، بل كانت وبامتياز فائق بوتقة لنقاشات فكرية، بعضها في غاية الثراء، حول ما يجري في المجتمع، في الوقت الذي لم تكن تتوفر فيه منابر من هذا النمط.
ومر قطار الزمن، في الحقيقة بتباطؤ وليس ببطء، إلى أن فتحت المساحة السياسية والمجتمعية بواباتها، منذ ثورة 25 يناير 2011 وإلى وقت ما في أواخر 2012. ومن الواضح أن فكرة أن المساحة فتحت أبوابها كانت مرة أخرى أشبه بقصة تراجيدية فاجعة، وبالرغم من أن المياه لم تعد راكدة كما كان الحال في عصر مبارك؛ إلا أنها استحالت إلى نبضات غير مستقرة في بطن بحر زلزالي النشأة. وهكذا، جاء إلى المساحة حديثة المولد، \”قبائل\” سياسية تزاحمت وتعاركت، بينما لم تنتظم في الواقع قوى مجتمعية أساسية جديدة من شأنها أن تكون صاحبة القول الفصل في مسار التغيير (أيا كانت وجهته).
شهدنا مولد عشرات المجموعات الشابة التي اختطت نهجا في العمل من أجل الدفاع عن حقوق أساسية للإنسان، وعديد الحملات والتجمعات والنداءات. إلا أن القبائل السياسية احتفظت لنفسها بأدوات العمل المنظم والتخطيط وغيرها مما أعطاها اليد الطولى في العبث بشكل وطبيعة وحجم المساحة الجديدة المتاحة. هل كان المطلوب ولادة تجمعات سياسية جديدة \”كبرى\” هويتها الرئيسة هي الانتقال بالمجتمع كليا خراج حقبة مبارك؟ أم كان المطلوب النهوض بدور منظمات المجتمع المدني لتلتحق، وتقود في لحظة ما، عجلة التغيير الانتقالي؟ ربما كلا المطلبين وغيرهما، لكن الثابت أن القلة من العارفين تنبهوا لذلك، وبعضهم تنبه متأخرا على نحو لا يُغتفر. والحجة بأن المطلبين السابقين قد تم تلبيتهما لكن البيئة المحيطة كانت أكثر قساوة مما عرفنا؛ هو جدل في الحد الأدنى باطل كون هذا التجمع غير موجود فعلا، وأن المجتمع المدني فهم المرحلة الانتقالية على أنها آخر المطاف.
وهنا، وعطفا على استذكارات حركة \”كفاية\”، فليس من المفيد التذكير بأن حملات أخرى، في الزمن القريب الماضي، نهضت واستجمعت أطراف المشهد الوطني قبالة أحد القبائل السياسية – ونجاحها، حتى لو ارتبط بدعم وتمويل ذي صبغة \”تآمرية\” فقد كان يؤشر في ذلك الوقت إلى بقع مفتوحة في المساحة السياسية لم تتمكن تلك القبيلة من إقفالها على نحو تام، واستغلتها الحملة (ومتآمريها إن شئتم) على نحو فعال.
وفي الوقت الذي تلتفت فيه الأنظار إلى حملة \”بداية\” وما يمكن أن تفضي إليه أنشطتها وبرنامجها أن توفر، فإن أكثر ما يبدو أننا بحاجة إليه هو حملة \”نهاية\”. نهاية كاملة وغير منقوصة لحقبة مبارك والقبائل التي ترعرعت على ضفاف مياهه الراكدة. لكن النهاية تحمل في طياتها ثنائية استبدالية مرعبة، فهي قد تعني أيضا نهاية القوى ضئيلة الحجم التي مازالت تحلم بمشروع وطن -دولة قائمة على العدل والمساواة وسيادة القانون. وبين النهايتين الافتراضيتين، هناك بداية وحيدة ممكنة تقتضي أن يتحصن المرابطون في حصن يجعلهم في مأمن منيع من بطش الخصم الأكثر قوة وجبروتا.. نحن موجودون، لا تكفي. من غير حصن، ليس هناك مأوى للمتحصنين. وتلك هي مجرد البداية.
للتواصل مع الكاتب على تويتر @fqadi