غادة أحمد تكتب: المسافة بيننا وبين مُلّاك صكوك الجنة

 

كان يسبقني بخطوات كعادته حين يجبره موقف ما للخروج معي، وعادة ما تكون زيارة لطبيب، هو رجل اعتاد أن يتجنب السير مع النساء، والحديث العميق أو المنطقي مع النساء، فهو لا يرى فيهنّ أكثر من خادمات ومربيات، ومن خرجت منهن للعمل ـلغير ظرف يستدعي ذلك- فهي حتما تشاركه -دون وجه حق- حقه في التعيين في وظيفة! ربما يستغرب القارئ لهذا الرجل وربما يجد نسخا مكررة عنه في محيطه -وإن كان هذا يبدي آراءه- وهناك من يخفيها أو يجمّلها، مبررا ذلك بأنها ملكة، والملكات لا يعملن، ولا يجهدن أنفسهن بأعباء لا تتناسب ورقتهنّ. هههه سقطت بين يديك؛ فالتقطني!
ليست المرأة وحدها من وقّع الجلادون على ظهرها بسياطهم، ووشمت القيود معصميها، بل الإنسان أكل وشرب ظلما وعنفا وتنابذا وطائفية وتنكّرا، إن لم يكن بيد السلطة، فبيد إخوانه ومن يعيشون معه، أرى ذلك التعصب في مباريات كرة القدم، أراه في البيت بين أفراد الأسرة الواحدة، عايشتها في مدرجات الجامعة حين كان يشير بعض المعلمين للطلبة أن اصمتوا، واسمعوني، فوحدي أعلم وأنتم جاهلون، عايشتها في علاقة الأب بأبنائه، والأخ الأكبر مع الأصغر، والولد مع البنت.. رأيي وحده صواب، وسأدافع عنه بشراسة، وسأنبذكم وأحتقركم إن خالفتموني، أو أفرض عليكم رأيي بالقوة -إن ملكها.

هنا.. يتداعى الصمت ويرتفع صوت الآذان: الله أكبر، فأتذكّر، يمرّ الشريط طويلا ثقيلا، هنا ذبحوه وكبّروا، هنا حكموا عليه بالنفي، بالقتل، بالإقصاء وكبّروا، هنا استباحوا عرضه وبيته ودمه وكبّروا.. هنا العراق، سوريا، ليبيا، مصر، اليمن. إلخ.. هنا يقتل الإنسان، ينبذ الإنسان، فقط لأنه يتكلّم، لأنه يفكر، لأنه يتساءل عن خبزه اليوميّ!

أين نعيش؟ وبأي عقل نعيش؟

يعاني الإنسان ما شاءت له المعاناة، إلا أنّه لن يضع قدمه على أرض الخلاص إلا بالوعي؛ فاضرب بفأسك حتى العمق، واسأل.. لا تخش ولا يرهبنّك من ادّعوا أنهم ملّاك صكوك الجنة، ومن توهّموا أنهم حملة ألوية الدفاع عن الله، فالله ـ جل شأنه ـ غنيّ عن المحامين.

ثمّة أقوال وأحكام لفرط ما اعتدت سماعها ظننتها الحقيقة! لذا عليك أن تواجهها، بالعلم، وليس التعليم الذي نلقّن فيه الإجابات المعلّبة الجاهزة.. السؤال وحده فعل استمرار، حياة، والإجابة تعني النهاية، الجمود والموت.

ثمّة سبل كثيرة، إحداها القراءة؛ اقرأ كثيرا، بل اقرأ أي شيء وكل شيء يقابلك، فكما يقول العقاد: \”ليس هناك كتاب أقرأه ولا أستفيد منه شيئا جديدا، فحتى الكتاب التافه أستفيد من قراءته، أنّي تعلّمت شيئا جديدا، هو: ما هي التفاهة؟ وكيف يكتب الكتّاب التافهون؟ وفيم يفكّرون؟\”

فالقراءة فعل حيّ في مقابل الجمود الذي نحياه، أن تقرأ يعني أن تفتح أفقا واسعة أمام عينيك، أن ترى أنك لست وحدك في هذا الكون وليست اعتقاداتك وحدها الموجودة، سترى الآخر ومن ثمّ تتساءل: أنا أم هو الذي على صواب؟

ستتراءى لك الحقيقة بعيدة وسبلها طويلة وممتدّة وذات شجون، ستشعر بالوحدة أحيانا وبالتيه أحيانا أخرى، لكن ستستمتع بالتورط أكثر، شرط أن تترك كل ما بيدك وما بعقلك خارجك!

يقول أدونيس: \”التمييز بين الإنسان وآرائه، دليل على حسّ رفيع، إنسانيا، وفكريّا، فمهما كان الاعتراض على الآراء قويّا وقاطعا، يجب احترام أصحابها، في إنسانيتهم، وفي حريتهم، وفي حقهم بتبنّي الأفكار التي تخالف أفكارنا، ويجب أن ندافع عنهم إنسانيّا فيما نخالف أفكارهم ثقافيّا\”

إذن.. تقبّل الرأي الآخر والقراءة بنقد وتمحيص ورؤية ثاقبة تنحي العواطف جانبا -إن شئت- لتفسح المجال أمام حرية العقل وتساؤلاته، هي أهم ما نحتاجه الآن، وسل نفسك على الدوام: هل أفكاري هي أنا؟ أم أنها موروثة وملقّنة؟ هذا سؤال لابد من الوقوف عنده، هل أقدس كل ما وصلني عن الأقدمين؟ أم آخذ منه وأترك؟ هل أتبع كل فكرة جديدة دون إعادة النظر فيها خشية اتهامي بالجمود وعدم العصرية؟ أم أمرر كل شيء على عقلي أولا ووحده الذي يقضي في الأمور؟

كل هذه الأسئلة يجب أن تسألها لنفسك كي تحدد عمر عقلك؟ أين تقف من كل هذا الدمار والخراب الفكري والثقافي الذي يموج من تحت أقدامنا؟ الصورة لن تكون قاتمة أبدا، مادام السؤال يعيش فينا، ومادام هناك من يفكّر ويبدع، وأظننا لم نحرمهم، والأرض مازالت تصرخ.

وأختم بقول ألقاه \”هوسرل\” في محاضرة له في فيينا حول مستقبل أوروبا، قال فيها ما خلاصته: \”ليس لأوروبا إلا مخرجان، إمّا أن تزول ـمغتربة عن معناها العقلانيّ الخاص، غارقة في البربريّة وفي كراهية الفكرـ وإما أنها ستولد بفضل بطولة العقل\”.

وهو تحديدا ما نحن بحاجة إليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top