فى ساعة تجلى.. كتب العراب أحمد خالد توفيق رواية \”يوتوبيا\”، يستهل المؤلف القول بإن الشخصيات والأحداث فى الرواية خيالية، وإن كان يتوقع حدوثها فى المستقبل القريب، كما تقرأ أنت عبارة مثل \”إنشاء مفاعل نووى فى مصر\”، فتتوقع أن ترى بوضوح كلمة \”انفجار\” أو \”كارثة\” لتكتمل منطقية العبارة، ومع مرور السنين على إصدارها، نجد بالفعل التطابق المثير للرواية مع ما يحدث فى مصر من أحداث تبعد عن المنطق والفهم فى كثير من الأحيان.
الفكرة الرئيسية للرواية تتلخص فى انقسام الشعب المصرى إلى فئتين.. الأغنياء وذوى السلطة يعيشون فى مدينة يوتوبيا المحاطة بالأسوار العالية وحراسة رجال المارينز الأمريكية المتقاعدين، وتتوافر فى المدينة أقصى درجات الترف والرفاهية التى يمكن تخيلها؛ أما الأغلبية الباقية من الشعب فتعيش فى ما تبقى من البلاد والتى تحولت لأطلال مهملة قذرة تليق بالحياة الحيوانية التى أصبحوا يعيشونها بأجساد بالية وأرواح سقيمة.
فى الرواية العديد من التفاصيل المفزعة، تجد على سبيل المثال التطبيع النفسي مع إسرائيل وقد دخل أرض الواقع لأول مرة عبر صداقات تربط الجيل الجديد بالإسرائيلين، كما تجد بيع الآثار المصرية للغرب -بشكل رسمى هذه المرة – بعد حالة الاحتياج الرهيب للطاقة أو الماء، وتجد التصارع على أكل الكلاب الضالة بسبب ندرة الغذاء فى وقت أصبح سعر الدولار يساوى ثلاثين جنيها.
إذا نظرنا للانفصال السكنى الطبقي، فقد بدأ يدخل بالفعل حيز الواقع، وتستطيع رؤيته بوضوح مع كل إعلان لكومباوند سكنى أو مدينة جديدة.. تعالى لتسكن معنا فى الجنة التى صنعناها، ذات الأمن والحراسة والأسوار العالية التى ستفصلك عن الخارج البشع، الذى لابد قد ضقت به ذرعا.. كل المطلوب منك أن تكون فاحش الثراء لتستطيع تحمل سعر المتر عندنا.
نسمع كل فترة عن اكتشاف رؤوس حمير فى القمامة أو فضيحة لمطعم يستخدم لحم الكلاب.. فقط الفرق فى الرواية أن الفقراء يعلمون أنهم يأكلونها، أما عن سعر الدولار، فقارب التسعة جنيهات مع قفزات متسارعة فى السعر لم يسبق لها مثيل، فى ظل دولة تهرب منها الاستثمارات وتغلق فيها الشركات أبوابها لعدم استقرارها الأمنى والاقتصادى.. إرهاب يعصف بسيناء.. عجز مائي متوقع.. لا سياحة.. لا خدمات صحية أو تعليمية.. لا يوجد مشروع قومى ملموس يجلب بعض التفاؤل للمستقبل.. معدلات هجرة غير مسبوقة شملت لأول مرة دولا أفريقية كثيرة.. كل شئ يدعم إمكانية تحقق الجو الكارثى فى الرواية.
انتهت الرواية بثورة.. ثورة مجهولة النتيجة على طريقة النهايات المفتوحة، ولكن الأغلبية العظمى الآن لا تريد ثورات أخرى كحلول.. الثورة كالمبيد الحشرى الذي أثبت عدم فعاليته مع الحشرات التى تعج بها بلدنا، أبادت وأفقدت إتزان بعض الحشرات، لكنها لم تقض عليها، بل زادت من هياجها، فازداد ضررها وظهرت منها فصائل جديدة بأعداد رهيبة، فلماذا نعود لاستخدام نفس المبيد مرة ثانية؟!
ما البديل؟ سؤال طرحه يتزايد يوما بعد يوم الآن، وهذا يدل بالضرورة على ازدياد رقعة عدم الرضا لتشمل قطاعات جديدة من الشعب كل يوم.. قطاعات لن تصبر حتى تجد نفسها خارج أسوار يوتوبيا تعانى من حالة اللا حياة.. كل الخوف وقتها أنه إذا تم الانفجار، فستغطى الدماء المشهد ولن يسلم منها أحد.
لذلك اتعجب من لامبالاة فاسدى هذا البلد بالوضع اليوتوبى الذى تتجه له البلد بإندفاع شخص مجنون يقود سيارة بثقة نحو الهاوية، لماذا لا يسرقون وينهبون ويفسدون ببعض التعقل الذي يسمح للمواطنين بأقل درجات الآدمية فى الحياة؟! لماذا يصرون على التعامل بكل هذا الغباء والجشع والتوحش، حتى صارت مصر كعلبة العصير التى انكمشت على نفسها من قوة شفط الفاسدين منها؟
بعض التعقل فى الفساد يا سادة من فضلكم.. لا نريد منكم أن تصلحوا، فنحن نعلم أنكم لستم أهل إصلاح حتى وإن أردتم، ولكننا وقد أبتلينا بكم، فنريد منكم فقط أن تمارسوا الفساد ببعض الاحترافية.. أن تتخذوا من عهد مبارك مثالا لتحتذوا به فى الفساد الوسطى الجميل، والذى أمرض البلد، ولكنه لم يقتلها كما ستفعلون.. افعلوا ذلك قبل أن نصل إلى مرحلة اللاعودة.. قبل أن نصل إلى يوتوبيا.