رزقني الله بمولودة في السعودية، وبعد أن سألت ذوي الخبرة عن الإجراءات الورقية المطلوبه، قيل لي إنه علي أن اتوجه أولا للأحوال المدنيه، لاستخراج شهادة ميلاد سعودية للطفلة، ثم اقوم بتصديقها من الخارجية السعودية لاتوجه بها بعد ذلك للسفارة المصرية، ليقوموا بإضافة المولودة على جواز سفر الأم، وبهذا تستطيع الطفلة السفر إلى مصر واستخراج شهادة ميلاد وجواز سفر مصري من هناك.. جهزت الأوراق المطلوبة وتغيبت عن العمل، لابدأ رحلة إنهاء الأوراق.
(1)
المكان: مبنى الأحوال المدنية بجدة
الوقت: الثامنة صباحا
دخلت من البوابة الرئيسيه للمبنى، لتستقبلني ماكينة أرقام الانتظار، سحبت منها ورقة، اخبرتني أن أمامي عشرون شخصا قبلي، فجلست على إحدى المقاعد انتظر، وبعد حوالي ساعة، كان الموظف السعودي يستقبل ورقي ويسجل بياناته على جهاز الكمبيوتر أمامه ليطبع بعدها شهادة الميلاد التي استلمتها متأملا بسعادة اسم نجلتي المطبوع عليها.
(2)
المكان: وزارة الخارجية السعودية بجدة
الوقت: العاشرة صباحا
عبرت من البوابة الإلكترونية ليستقبلني حارس الأمن، الذي مرر على جسدي سريعا جهاز كشف المعادن، ثم دلفت إلى الصالة هائلة الحجم بالداخل، لاصدم من الإعداد الهائلة الجالسة في مواجهة حائط زجاجي بعرض الصالة يصطف ورائه عدد كبير من الموظفين منهمكين في إنهاء المعاملات الخاصة بالأشخاص الواقفين أمامهم.
استقبلت كالعادة ماكينة أرقام الانتظار، فضغطت عليها متوجسا، فأخرجت ورقتها كأنها تخرج لي لسانها، تخبرني – شامتة- أن أمامي أكثر من ثمانين شخصا يسبقونني، فجلست في احباط على أحد المقاعد، اتابع الشاشات الإليكترونية المعلقة فوق الشبابيك الزجاجية، لكن سرعان ما تحول احباطي إلى سرور مع متابعتي لتوالي الأرقام السريع، حتى إن ابتسامة عريضه ملأت وجهي وأنا اقف بعد نصف ساعة فقط أمام إحدى الشبابيك لاسلم الموظف شهادة الميلاد ليلصق عليها طابع التصديق ويصكها بالخاتم الرسمي قبل أن يذيلها بتوقيعه ويرجعها لي، وهو يضغط علي زر بجانبه لاستدعاء الرقم التالي على الشاشه التي تعلوه.
(3)
المكان: السفارة المصرية بجدة
الوقت: الحادية عشرة والربع صباحا
تطلعت إلى العلم المصري الذي يرفرف أعلى مبنى السفارة، وحثثت الخطى تجاه بوابتها سعيدا بأنني على وشك إنهاء أوراقي في يوم واحد فقط، دافعا بعض الهواجس داخل عقلي، تذكرني بالبيروقراطية المصرية العتيدة لموظفينها، فأنا قد تسلحت بأصول وصور لجميع الأوراق المطلوبة وحتى غير المطلوبة.
عبرت البوابة الرئيسية لأجد لافتة تواجهني، مكتوبا عليها: برجاء تسليم الجوال قبل الدخول، فقمت بتسليمه للموظف المختص بعد غلقه، واستلمت \”كارت\”، لاسترجاعه عند خروجي، ثم عبرت البوابة الإليكترونية عبر طابور صغير يستقبله حارس الأمن، الذي يقوم بتفتيش ذاتي سريع، ثم دلفت إلى الداخل لأجد ممرا طويلا يقود إلى صالة دائرية فاخرة، تصطف على محيطها شبابيك خدمة المواطنين، باستثناء فتحة تقود لصالة استقبال أخرى، وعند شباك الاستعلامات سألت الموظف: لو سمحت عايز اضيف مولودة على باسبور أمها.
قال الموظف متجهما دون أن ينظر إليّ: املا الاستمارة دي وروح على شباك 7.
تأملت الورقه، فالتبس علي فهم بعض البيانات المطلوبة، ومنعني وجه الموظف المتجهم من معاودة سؤاله، فتوجهت إلى شباك 7 الخاص بإضافه المواليد، لأجد قرابة العشر أشخاص يصطفون في طابور أمامه، ينتهي عند الشباك بخمسة أشخاص آخرين لا تعرف موقعهم من الإعراب، يقفون بلا نظام، يحجبون الموظفة القابعه خلفه، فسألت الرجل في آخر الطابور: لو سمحت.. هو خانة العمل دي، قصدهم بيها عملي ولا عمل الزوجة؟
الرجل في هلع: استمارة إيه؟ هو المفروض يكون معايا الاستمارة دي؟!!
أنا: آه يا ريس طبعا.. روح خودلك واحدة من الاستعلامات.
الرجل: طيب الله يخليك احجز لي مكاني في الطابور.
أنا: من عنيا.
ذهب الرجل، فأعدت سؤالي على الشاب الذي أمامه، فأجاب: والله أنا زيك مش عارف.. سيبها فاضيه للموظفة، تملاها زي ما هي عايزة.
أنا: طيب، وإيه الناس الكتير اللي على الشباك دول؟
زفر الشاب: اللي بيسأل عن الورق المطلوب، واللي بيأكد على إن ورقه سليم، وكده يعني.
قارنت في ذهني بين محطتي السابقتين وبين محطتي الحالية، ففي الأولتين كنت جالسا انتظر في هدوء دوري ووقتي الذي لن يزاحمني فيه أحد، أما في الأخيرة، فأنا واقف على قدمي لساعات، حارسا موقعي المقدس في طابور من الأشخاص الوجلة قلوبهم من سلامة أوراقهم، وهل ستنال رضا الموظف العظيم الجالس عند الشباك كالقاضي الصارم، إما أن يقبلها بتعال، أو يصرفك بتعال لاستكمال مستند ما، وأيقنت حانقا من حتمية تفرد المصالح الحكومية المصرية بنظامها العقيم الذي يشعل أعصاب أكثر الناس هدوءا، ويهد حيل أوفر الشباب صحة.. ألم يفكر أحد العاملين بإدارة المكان في وضع ورقه صغيرة بجوار كل شباك بها المستندات المطلوبة؟! ألم يفكر أحدهم أن الطوابير التي يقف فيها الناس بشكل غير آدمي، اصبحت من الماضي؟!
كان الطابور يتحرك ببطء شديد، والموظفة في ملحمة قص ولزق الصور وتدبيس الأوراق وترتيبها بكفاءة عرضحالجي متمرس، وفجأه صدح الأثير بآذان الظهر، وزاد تململ الواقفين وخوفهم من ألا يكون لهم نصيب من تجهم تلك الموظفة، وبالتالي اضطرارهم لتجرع المزيد من هذا التجهم في يوم آخر.
جاءتني الفكرة فجأه، فخرجت من الطابور إلى بروز رخامي جوار الحائط، واخرجت ورقه بيضاء، قمت بطيها وتقطيعها إلى مربعات متوسطة الحجم، ثم شرعت اسجل على كل المربعات الورقية أرقام متسلسلة، ثم رجعت للطابور، وقمت بتوزيع الأوراق بالترتيب على الواقفين بالطابور، وسلمت للأخير باقي الأرقام الزائدة لاعطائها لأي قادم محتمل.
استلم الأشخاص أوراقهم بسعادة ورضا من ذلك التصرف البسيط الذي حررهم من سجن الطابور الذي انفرط عقده، ما بين ذاهب لدورة مياه أو لأداء الصلاه أو طالبا بعض الراحه لقدم متورمة.
ملأني تقبل الناس للفكرة زهوا، وأحسست بأن العيب ليس فينا كمصريين، بل العيب في الإدارة الفاشلة التي تنتج نظاما متهلهلا.. الكلمة العليا فيه للفوضى.. انظر إلى سلوك المصريين في الدول الأجنبية، وانظر إلى سلوك نفس المجموعة داخل السفارات المصرية، لتدرك منبع المشكلة.
وزعت الموظفة وقتها بالعدل، بين خدمة الطابور – أحيانا- وخدمة من استطاع توصيل ورقة إليها – بالواسطة- كما اتسع وقتها للكثير من المناقشات الجانبية الباسمه مع زميلاتها وزملائها الذين يمرون عليها. وعندما حان دوري بعد ساعات عجاف، سلمت للموظفة أوراقي، ووقفت أراقبها تصول فيها وتجول، إلى أن سلمتني ورقة صغيرة لاستلام جواز زوجتي بعد ختمه من شباك خاص بالاستلام، وبعد نصف ساعة إضافية، تلقيت جواز السفر، كمن يتلقى ميداليته الذهبية كبطل انهى إجراءاته بنجاح.
السخرية هنا أن صعوبة الإجراءات المتبعة في أي مصلحة حكومية مصرية، تمنحك سعادة بالغة، وأنت تحصل على مبتغاك في النهايه.. سعادة لا تمنحك إياها المصالح الحكومية الأجنبيه التي تنهي فيها طلبك دون تجرعك للمرارة، فكما يقال: ما يأتي بسهولة.. يضيع بسهولة.
فها أنا ذا بعد كل ما عانيته، إلا أنني في النهايه اتطلع لجواز السفر، واقلب صفحاته، وعلى وجهي ابتسامة منتشية، وأنا ارى صورة ابنتي الحبيبة مجاورة لصورتي الوسيمة في جواز سفري، لكن مهلا! لماذا ارى صورتي أنا بدلا من صورة زوجتي؟! لقد بدلت تلك اللعينه الجوازات، واضافت ابنتي لجواز سفري أنا بالخطأ!
كان التفجير قويا، وتناثرت أشلاؤها، واغرقت الدماء المكان، لكن للأسف، لم يتعد ذلك مخيلتي، وأنا اتابعها تخوض حديثا وديا مع زميلتها العابرة.