في العام ١٩٥٧، تم إنتاج فيلم \”رد قلبي\”، واحد من علامات السينما المصرية، وقد حُفر في قلبنا وذهننا هذا الفيلم إلى الأبد.
شاهدنا علي ابن الجنايني الطيب البسيط.. علي الذي كان يعمل والده عند الإقطاعي الجشع الشرير.. شاهدناه كبطل مغوار.. شاهدنا كيف تحول من شخص مذلول مضطهد إلى شخص يدخل بيت الإقطاعي في النهاية كواحد من حكام البلد، ليطالبهم بأموالهم كي يعطيها للفقراء وتسود العدالة الاجتماعية والرخاء في البلاد.. فعل هذا ولم يوقفه حبه لبنته الأميرة إنجي!
بعد إدماني لمشاهدة الفيلم – سنويا- في ذكرى ثورة يوليو \”المجيدة\”، كبرت وقرأت وتعلمت، وعلمت أن ليس كل \”علي\” بطل، وليس كل غني إقطاعي جشع شرير، وعلمت أن هناك الكثير من هؤلاء الـ \”علي\”، فسدوا واستغلوا هذه الأموال للمتعة الشخصية ولبناء زعامات وهمية، وهناك الكثير من الأغنياء خسروا أموال، كتسبوها بعملهم لترمى في تهلكة حروب لم يكن لها أي جدوى.. علمت أن التاريخ صور لنا أبيض وأسود، بينما – في الحقيقة – كان مليئا بالألوان.. علمت في النهاية أن التاريخ تكتبه.. السينما!
كبرت أكثر.. اهتممت كثيرا بعد الثورة المصرية، وخصوصا في بداية تساؤلاتنا عن مستقبل البلد بعد مبارك، بدراسة التاريخ والسياسة، لتخيل شكل الدولة التي نتمناها.. علمت أنه – بسهولة – تستطيع أي دولة بظروف معينة أن تتحول لدولة ديكتاتورية شمولية، حتى لو كان بعد ثورة \”مجيدة\” أخرى، فقط إذا توافرت بعض العوامل، مثل أداة قمعية.. عدو داخلي وخارجي، وأداة إعلامية دعائية تسمى بالـ \”بروباجندا\”.
البروباجندا، هي عندما تبدأ أي دولة في غسل عقول الجماهير عن طريق الإعلام والصحافة والفن.. عندما تتحكم فيهم بشكل مباشر لزرع أي أفكار تريدها في عقولهم.. أن تحببهم في قياداتهم، وأن تكرههم في أعداء الدولة، وأن ترعبهم من مجرد التفكير في معارضتها.
البروباجندا.. استخدمت كثيرا حتى في دول ديموقراطية عريقة، أهمها الولايات المتحدة الأمريكية، عندما استخدمت الدولة أدوات الإعلام والفن كثيرا لإرهاب الشعب من خطر الشيوعية أو لحشدهم للوقوف خلف حروب قذرة روج لها إنها حملات لنشر الديموقراطية والحرية في العالم.
بعد ثورة يناير، دفعني تفاؤلي لأن اتخيل، أنه بعد الثورة، سيصاب أي حاكم مستقبلي في مصر بالـ \”تحريروفوبيا\”.. سيفكر ألف مرة قبل أن يفكر في أي انقلاب على مطالبها، لكني أدركت أنني كنت ابالغ في تفاؤلي، فإن كل حكامنا تستطيع أن تشبههم بشاب مراهق مات صديقه، فدفعته الصدمة ليصلي أسبوعا جماعة في المسجد، ثم بعدها بأسبوع ينسى ويرجع ليحتسي الخمر وينغمس في ملذاته، فبعد الثورة.. كل من أتى – مؤقتا أو منتخبا – كان أمله أن يكرر ما فعله سابقيه، ولكن بطرق مستحدثه، ربما كلهم ظنوا أن خطأ مبارك لم يكن في قمعه، بل في أنه \”لم يقمع بشكل ذكي وحكيم\”!
اكتب كل هذا لسببين.. أولهما: أنني سمعت خبر تنصيب وزير جديد لوزارة الثقافة.. كان عندي أمل أن أجد شخصا مجددا وتقدميا وفنانا، ليتولى هذه المهمة الشاقة وسط حرب شرسة ضد الإرهاب، ومجتمع على صفيح ساخن.. شخص له رؤية ويريد أن يستغل مكانة لتثقيف الناس.. تحريرهم، وتشجيعهم على حب الثقافة والفن، حتى لا يصبح كل شخص خامة خصبة للتحول لإرهابي مستقبلا، وحتى لا يندفع الشباب وراء حلم \”دولة دينية\” مزعومة، أو دولة قمعية مغرورة.
كان لدي أمل أن يغير هذا الوزير قوانين الرقابة.. أن يدعم المواهب الشابة مهما كان توجهها، لكنني فوجئت بأن أول تصريحاته أن الدولة ستدعم الأفلام \”ذات التوجه الوطني\”!
السبب الثاني: أنني دعيت لمشاهدة مسرحية اسمها \”١٩٨٠ وإنت طالع\”، قائم عليها مواهب شابة جديدة.. ذهبت بدون توقعات، لانبهر بها.. ليس فنيا فقط، قدر ما انبهرت بنبرة صوتها الغاضب والحانق على ما وصلنا إليه.
المسرحية أقوى من ألف مقال معارض.. أقوى من أي مظاهرة، تظهر لك في ساعة ونصف مقدار غضب الشباب وكبتهم، ويؤكد عليها تصفيق لا ينتهي من المشاهدين الذين اكتظت بهم الصالة.
قارنت بين الحدثين، فلدينا شباب لم يستطع أن يوصل صوته إلا عن طريق مسرحية بسيطة، لم يدعمها أحد، ولدينا دولة تريد أن ترجع للخلف أكثر من ستين سنة، وتصنع أفلام بروباجندا لتروج لما تريد أن تروج له، وتضع معاييرها لتحديد إن كانت هذه الأفلام \”وطنية\” أم لا!
ولأني – وأنا في المسرحية – كنت أخشى أن يكون هناك \”بوكس\” عملاق أمام المسرح ليأخذنا جميعا للهلاك، ولأني أريد أن اصنع أفلاما ناجحة، واتمنى أن تدعمني الدولة، فأنا سأختار أن اصنع فيلما واقدمه للدولة لتدعمه، فأنا كحال أي شخص \”عايز أعيش\”.
وهنا.. اتوجه لوزير الثقافة، بفكرة فيلم أظن أنه سيحبه، وهو جزء ثان لفيلم \”رد قلبي\”.
في عجالة تدور فكرة الفيلم حول \”علي\” الضابط، الذي تزوج إنجي، وأنجب منها الأولاد والبنات.. عاملهم بقسوة طوال عمره، فأتى يوم وتمرد الأولاد عليه.. طالبوا بالحرية، واستطاعوا – بعد تضحيات – أن يكتسبوها، لكن مؤقتا.
وهنا.. فقد \”علي\” سطوته عليهم، ولكنه كان ذكيا بقدر كاف لأن يتركهم يلعبون ويمرحون بوهم الحرية، وفي اللحظة السليمة، وببعض الابتزاز العاطفي، وببعض التخطيط والتمويه والعقاب، جعلهم – هم بنفسهم – يرجعون له ويقبلون يده ليطلبون منه أن يرجعون لقفصه.
ألا تظن معي يا سيادة الوزير أنها قصة نجاح ملهمة جدا؟! خصوصا أن \”علي\” سيعجب بك ويحبك جدا إن دعمتها؟