فى مستهل العام 2005 كان المناخ السياسى والاجتماعى فى مصر مشحونا بالأسئلة، وكانت التداعيات التى أحدثتها مظاهرات حركة \”كفاية\” الاحتجاجية قد ساعدت فى تأجيج حرارة هذه الأسئلة حول المستقبل.
فى هذه اللحظة بعينها كنت أقف -كغيرى من المهتمين بالشأن العام بعيدا عن أى نشاط سياسى– حائرا متوجسا من سيناريو توريث \”جمال مبارك\” حكم مصر، وحتى بعد تعديل المادة 76 من الدستور، التي أتاحت لمن تنطبق عليهم الشروط أن يترشحوا لانتخابات رئاسة الجمهورية ضد \”حسنى مبارك\”، كانت القراءة المنطقية لهذا التعديل ما هى إلا تعبيد الطريق لمشروع التوريث.
وفى جلسة على مقهى بوسط البلد حدثنى الصديق \”سيد محمود حسن\” بحماسه المعهود عن \”يوسف درويش\” وهو واحد من ثلاثة يهود مصريين قرأت وسمعت عن نضالهم فى الحركة الوطنية فى أربعينيات القرن العشرين تحت راية الشيوعية واليسار بشكل عام، وهم \”هنرى كورييل\”، \”يوسف درويش\” و\”شحاتة هارون\”.
كنت أجد نفسى دائما منحازا لأفكار اليسار المصرى ودوره فى تاريخ العمل السياسى بعد ثورة 1919، وكانت شخصية \”هنرى كورييل\” بالنسبة لى درامية وملهمة كمدخل لتأمل هذه الحقبة، إلى أن تعرفت على يوسف درويش من خلال سيد محمود، وجمعنا التفكير فى عمل فيلم تسجيلى يسرد مسيرته النضالية ويلقى أضواء كاشفة على تاريخ اليسار المصرى فى الحركة الوطنية المصرية.
وتشاء الصدف أن يكون \”يوسف درويش\” فى هذه اللحظة محل اهتمام أكثر من راصد ودارس، فكان هناك مشروع فيلم تسجيلى عنه بدأته المخرجة المعروفة \”عرب لطفى\” مع معد ومنتج لا أذكر اسمه الآن، ثم إذاعة حلقة من برنامج لـ منى الشاذلى على قناة \”دريم\” مع يوسف درويش، أعلن بعدها المنتج محمد العدل –وكانت له صلة شخصية وعائلية بيوسف درويش منذ سنوات عمله فى الجزائر- عن نيته لانتاج فيلم تسجيلى عن حياته، وبعدها شرع الصحفى \”وائل عبدالفتاح\” فى إعداد ملف نشر على حلقات فى جريدة \”الفجر\” عن المناضل الذى يحل عيد ميلاده السادس بعد المائة اليوم.
وجرى اتفاق بينى وسيد محمود والمنتج محمد العدل بموافقة وترحيب من يوسف درويش أن نبدأ فى توثيق تاريخه الشخصى والنضالى مع شهادات للمعاصرين فى إطار نظرة شاملة على اليسار المصرى بهدف عمل فيلم تسجيلى طويل.
يوسف درويش شخصية ودودة جذابة تحتويك بلطفها وبساطتها من أول لقاء، لذلك كانت ساعات التصوير معه متعة إنسانية ومعرفية لكل فريق العمل، كان سيد محمود كباحث ومعد هو من يطرح الأسئلة ويدير الحوار معه وكنت –مع متابعة الأمور الفنية مع المصور جون حكيم ومسجل الصوت– أتأمل رحلته الإنسانية والنضالية مازجا بينها فى خيالى وبين هذا الزمن الذى لم أعشه، وقرأت عنه فى كتب التاريخ والأدب.
يوسف درويش ولد يهوديا لعائلة يهودية من \”القرائين\” عام 1910، بدأ وفديا ثم تحول للشيوعية والاشتراكية فى الفكر والسياسة أثناء دراسته للقانون فى فرنسا فى منتصف الثلاثينيات، وأشهر إسلامه عام 1947 وهو محامٍ لأكثر من 60 نقابة عمالية فى مصر قبل تحولات يوليو 52 (للإطلاع على تاريخ يوسف درويش الشخصى والسياسى راجع الرابط رقم 1 فى نهاية المقال).
تقاطعت حياة درويش العريضة مع أهم أحداث القرن العشرين، ومثلت مواقفه والقضايا التى تبنى الدفاع عنها حالة خاصة وتجسيدا حيا لمعنى \”المواطنة\”، هكذا كنت أراه نموذجا استثنائيا للمواطن المصرى بعيدا عن التصورات النمطية، فلا يجب أن تكون العقيدة الدينية أو الانتماءات السياسية مجالا للتمييز بين أبناء الوطن الواحد.
بعد انتهاء تصوير الفيلم ظل يوسف درويش حريصا على الصلة مع فريق العمل، وكنت أسعد بزيارته كلما سمح وقته، ورغم أن العمل على الفيلم توقف بعد التصوير لأسباب تخص المنتج محمد العدل ولا أعلم عنها شيئا، إلا أن يوسف درويش ظل على وده معنا جميعا حتى حل شهر يونيو 2006 الذى شهد رحيل الأستاذ يوسف درويش ورفيق كفاحه الأستاذ أحمد نبيل الهلالى وأيضا الأستاذ أحمد عبدالله رزة القيادة البارزة للحركة الطلابية منذ مطلع السبعينيات فى مفارقة قدرية مُرة أصابت أجيال اليسار المصرى المختلفة بالوجوم والحزن.
وفى أكتوبر 2010 كانت الأستاذة نولة درويش قد أعدت بالتنسيق مع نقابة الصحفيين تكريما واحتفالا بمرور مائة عام على ميلاد يوسف درويش بالقاعة الكبرى فى النقابة، وفى إطار التحضير للمناسبة اتصلت بالمنتج محمد العدل وأعربت عن رغبتها فى عرض لقطات من المادة الفيلمية المصورة لوالدها قبل أربع سنوات، فاستجاب وكان الباقى على الاحتفال ثلاثة أو أربعة أيام على ما أذكر، حاولت خلالها –بقدر ما سمح الوقت- أن أنجز \”فيديو\” يليق بالمناسبة.
امتلأت القاعة ليلتها بأصدقاء يوسف درويش وتلاميذه، وقامت الفنانة \”بسمة\” بتقديم المتحدثين من رفاق مشوار كفاح جدها، ثم عُرض الفيديو فى نهاية الاحتفال (رابط الفيديو فى نهاية المقال).
بعد ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث، كثيرا ما تذكرت الأستاذ يوسف درويش والمبادئ التى عاش من أجلها، وقابلت فى ميدان التحرير العديد من زملائه وتلاميذه الذين تأثروا بأفكاره واستلهموا من سيرة كفاحه عونا وزادا للمستقبل، وأتذكر الآن فى عيد ميلاده حوارا صحفيا مع المحامى المدافع عن حقوق العمال وحرية المعتقلين \”خالد على\” فى \”الأخبار\” اللبنانية بعد الثورة، جاء فيه:
\”انحاز خالد علي صبيًا، إلى معسكر الشيوعيين في قريته ميت يعيش الكوزموبوليتانية، في محافظة الدقهلية، وقد أنجبت من قبل مناضلًا شيوعيًا بحجم شهدي عطية الشافعي. وذات مرّة، كان على موعد مع اتصال هاتفي، سيغيّر مجرى حياته بامتياز. كان المتصل يوسف درويش، الأستاذ، والمناضل الشيوعي الاستثنائي، يحدثّه: \”خالد.. كيف الحال؟ تعال إلى البيت.. أريدك في أمر خاص.. سلام\”
لم يتردَّد في حمل حقيبة ثقيلة من عنده، زاخرة بالمذكرات الشخصية، والوثائق التي تدوّن كفاح الطبقة العاملة.
توفي العم يوسف درويش بعد ذلك بأيام قليلة، وكان ذلك عام 2006.
كل سنة والأستاذ يوسف درويش طيب ودائم الحضور.
1 رابط تاريخ حياة يوسف درويش.. هنا
2 رابط فيديو عيد ميلاد يوسف درويش.. هنا
3 رابط حوار خالد على.. هنا