في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كانت الصديقة \”معتزة صلاح عبدالصبور\” تحتفل على صفحتها بموقع \”فيسبوك\” بعيد ميلاد والدها الشاعر الكبير الذي رحل عن عالمنا بجسده عام 1981، وظل حاضرا بدواوينه ومسرحياته الشعرية وترجماته ومقالاته في الفن والحياة، كانت \”معتزة\” تشاركنا مقاطع من قصائده وبعض من صوره العائلية ويشاركها الأصدقاء من محبي \”صلاح عبدالصبور\”، بما استقر في وجدانهم وحفظته ذاكرتهم من عوالم شعره الرحبة المترامية، واقترحت عليها وقتها أن ننسق معا أمسية شعرية ندعو فيها بعضا من عشاق شعره وأصدقاء فكره وإنسانيته، لا لنتذكره وهو الحاضر دوما بما تركه فينا من أثر، بل لنأتنس به في تلك الفترة المضطربة من واقعنا المأزوم.
وكان أن كرسنا جهدنا لإعداد وتنسيق الأمسية التي خطر لنا إحياؤها في \”المركز المصري للثقافة والفنون\”، فما كان من د. أحمد المغربي مدير المركز، إلا أن رحب بسرور بالغ، وكانت الأمسية عامرة بالمشاعر الشفيفة الحميمة في الليلة الأخيرة من مايو شهر ميلاد شاعرنا \”الفارس القديم\”.
سيجد الباحث فى الأرشيفات مئات المقالات وعشرات الدراسات والرسائل الجامعية التي تتناول الإنجاز الشعري لرائد قصيدة النثر وصاحب النقلة النوعية في المسرح الشعري المعاصر، وإن جاز لي أن أكتب عن \”صلاح عبدالصبور\”، فلا أزعم أني أضيف جديدا في هذا المجال، لكني اكتب عن الأثر العميق لشعره في نفسي وفكري على مر السنوات.. فقط.. \”أتحدث عنه بإحساسي المفعم\”.
في سنوات الشغف الأولى ونهم القراءة وحيرة الذات، حين كان عالمي مازال في طور التكوين، وأنا أخطو مرتبكا نحو العشرين، تعرفت بـ \”سعيد\” الصحفي الشاعر في مشاهد مسرحية \”ليلى والمجنون\”، ثم رأيته مجسدا على خشبة القاعة الكبرى بمعهد الفنون المسرحية بأداء رائع للمثل – الطالب وقتها – \”توفيق عبدالحميد\”، فُتنت بالمسرحية ذلك الحين، وتوحدت مع \”سعيد\” في مأساته، وقرأت كل دواوين الشاعر ومسرحياته الأخرى، وعندما عرضت في نفس الفترة في قاعة \”صلاح عبدالصبور\” بمسرح الطليعة مسرحية \”مسافر ليل\”، شاهدتها عدة مرات ورغم إنغماسي في عالم \”عبدالصبور\” الشعري المترامي المشاعر والأفكار، إلا أن \”ليلى والمجنون\” احتفظت بمكانتها في وجداني ومكانها في حقيبتي وعلى مكتبي وتحت وسادتي.
ليلى
إنى رجل مرهق
جاوزت العشرين ببضع سنين،
لكني أشعر أني متغضن
لا وجهي، بل أعصابي وخيالي ودمائي
بل إنى أحيانا أنظر في المرآة
لا أبصر نفسي، بل أبصر مخلوقا معروقا هرما
تتوكأ كتفاه على أقرب حائط
ليلى
إني أتعلق من رسغي في حبلين
الحبلان صليبي وقيامة روحي
الحرية والحب
والحرية برق قد لا تبصره عيناي، وعينا جيلي المتعب
لكن الحب يلوح قريبا مني
ليلى
هل تدري؟
ما معنى أن يمنح رجل لإمرأة قلبه!
رجل مثلي جاف كالصبار
لا يملك إلا هذه الزهرة.
وتمر سنوات، أخلع فيها رداء \”سعيد\” وأتحرر من شرنقة \”ليلى والمجنون\”، وأرحل عن \”قاهرة الأيام\” إلى \”مدينة الضباب\” عاصمة بلاد الإنجليز، وذات صباح يوم سعيد، كنت في زيارة من الزيارات الأسبوعية المعتادة لمحل الجرائد والمجلات المصرية في شارع \”كوينزواي\” بوسط \”لندن\”، لأجد بين أرفف الكتب إصدار الهيئة العامة للكتاب للأعمال الكاملة لصلاح عبدالصبور – طبعة 1991 – وبها كل إنتاجه النثري من مقالات وتأملات فكرية، فكان الاكتشاف الثاني لعالم \”عبدالصبور\” لا يقل إبهارا عن الاكتشاف الأول.. قرأته بنفس الاستمتاع، وتوقفت طويلا عند مجموعة مقالات مطولة تحت عنوان \”الأربعة الكبار\” (طه حسين / العقاد / الحكيم / المازنى) نشرت فى أواسط خمسينيات القرن الماضي بمجلة \”روزاليوسف\”، تصدى فيها \”عبدالصبور\” – الشاب وقتها – بكل الحب والعمق والأريحية لتحليل وتفنيد ونقد أعمال وفلسفة الأربعة الكبار، وأيضا تأملت كثيرا مجموعة مقالات تحت عنوان \”أقول لكم عن الحب والفن والحياة\”، فكانت العودة مجددا لعالم الشعر مثل \”الإبحار في الذاكرة\” (آخر ديوان للشاعر وأقربهم إلى قلبي)
سيف اللاجدوى
يهوى ما بين الرغبة والعقل
صحراء اللافعل
تتمدد ما بين الرغبة و الجدوى
ماذا في طوق الفأر المذعور
ما بين السيف وبين الصحراء.
فرض أول:
يهرب من سيف اللاجدوى للفعل اللامجدي
فرض ثان:
يهرب من صحراء اللافعل إلى قاع اللارغبة
فيداهمه سيف اللاجدوى
فرض ثالث:
يثوى فى جحر اللاجدوى
واللارغبة
واللافعل
ويموت… !!
وتمر سنوات أخرى وأعود لـ \”قاهرة الأيام\” أتسكع في عوالم السينما وعيني على \”ليلى والمجنون\”.. بين الحماس والتردد تتأرجح الرغبة ويداعبني الشغف القديم.
ليلى: سعيد
إنى أتمناك
سعيد: أنا لك يا ليلى
ليلى: لي كي ألمحك على أهدابي كالحلم المفقود
إني أبغى أن أضعك في عيوني كالنور
سعيد انظر لي والمسني وتحسسني
إني وتر مشدود
يبغى أن ينحل على كفيك غناء وتقاسيم
إذا كان القارئ الكريم قد وصل معي إلى هذه الفاصلة في حديث قد لا ينتهي إلا مع نهاية العمر، فليسمح لي أن أشكر الأساتذة: بهاء جاهين / أمين حداد / طارق الدويري / هاني المتناوي، والأستاذات: أسماء يحيى الطاهر / نوارة مراد / معتزة صلاح عبدالصبور على مشاركتهم في أمسية \”في حب صلاح عبدالصبور\”، وأدعوك لمشاهدة بعض مقاطع من الأمسية في الروابط التالية:
قصيدة \”أغنية لليل\” إلقاء بهاء جاهين.. اضغط هنا
قصيدة \”الشعر والرماد\” بصوت صلاح عبدالصبور.. اضغط هنا
قصيدة \”شنق زهران\” إلقاء أمين حداد.. اضغط هنا
قصيدة \”إحمال القصة\” بصوت صلاح عبدالصبور.. اضغط هنا