أفضل توصيف جوهري قريته للرأسمالية هو إنها استثمار في المستقبل، إنها متمحورة حوالين الأمل، هآخد قرض بفوايد أعمل بيه مشروع علشان غالب عليا ظن إن المشروع هينجح وهيغطي، هشتري بيت أحسن وعربية أجدد بالتقسيط عشان غالب عليا ظن إني هشتغل وهسدد الأقساط. الرأسمالية متمحورة حول الطموح والأمل زي ما الشيوعية متمحورة حوالين العدل. دلوقتي الرأسمالية بتواجه مشكلة بنيوية بتضرب في قلبها، بس قبل ما أشرح المشكلة دي عايز أكلمكوا شوية عن شوبنهاور. شوبنهاور كان فيلسوف مثالي، والفلسفة المثالية دي (باختصار مخل جدا جدا جدا ولكن للتبسيط) بتقول إن الإرادة بتسبق الواقع، يعني لو حاولنا نشوف تطبيق للفلسفة دي قريب للتصور، هنقول إن المثاليين بيعتقدوا -على عكس الماديين اللي زي ماركس- إن الأفكار والمباديء وما ينتج عنها من منظومات أخلاق ودين وقانون، هي اللي بتشكل علاقات الثورة والسلطة. شوبنهاور كان شايف إن الموضوع ده مدعاة للاكتئاب والعدمية، لأن معناه إن الوضع باستمرار هيبقي عندنا إرادة لشيء لم يتحقق بعد، فإذا تحقق وأصبح واقعا، تظهر إرادة أخرى لم تتحقق بعد، فتاخد مكانها وهكذا دواليك، وبناء عليه فإذا نظرنا للإنسان في أي لحظة من حياته هنلاقي عنده رغبات غير متحققة.
مشكلة من مشاكل الرأسمالية الهيكلية هي إنها رغم كونها نظاما شديد الكفاءة في الإنتاج وإضافة القيمة ومراكمة الثروة، إلا أنه أكثر كفاءة في بناء الأحلام والطموحات والأماني، وده وضع معظم الناس في موضع شوبنهاور بالنسبة للإرادة، في سلسلة دائمة من الإرادات غير المتحققة، فإن تحققت ظهر غيرها، سواء كان ده على المستوى المادي (بانتشار الثقافة الإستهلاكية واللهاث الدائم من أجل المنزل الأفضل والسيارة الأفضل وبيت الضاحية الأفضل) أو حتى على المستوى الوظيفي/المعنوي (الترقية التالية – الوظيفة التالية – الصفر التالي على يمين رصيد البنك) العالم دلوقتي بيشهد ثورة غضب ضد الرأسمالية في الدول اللي شعوبها جنت كل ثمار الرأسمالية، واللي بالفعل عايشين في ظلها أفضل من كل شعوب العالم الأخرى، ولكن الجزرة بتبعد كل ما يخطو تجاهها والرأسمالية برمجتهم إن الجري ورا الجزرة هو أسمى شيء ممكن الإنسان يعمله بحياته. وعلى الصعيد الآخر، الأفراد القابعين على قمة هرم الرأسمالية حاولوا بأقصى وأقسى ما في وسعهم إنهم يحطوا عراقيل بين الفرد العادي في المجتمع الرأسمالي وبين الجزرة، مبدأ \”من جد وجد\” اللي هو رأس الأمر وعموده وذروة سنامه في الرأسمالية، أصبح فعليا غير متحقق إلا لكبار العباقرة من أمثال إيلون ماسك، ولحفنة لا تتعدى الواحد من كل عشرة آلاف مواطن من خريجين جامعات القمة اللي بيسموها رابطة اللبلاب. أما الإنسان العادي المكافح فتحول نجاحه أو وصوله لمراتب عالية مهمة أصعب من ولوج الجمل من سم الخياط، وبقي مهددا إنه يفقد مورد رزقه لأسباب غير موضوعية ومالهاش أي علاقة بكفاءته الشخصية واجتهاده زي إنخفاض أرباح الشركة اللي شغال فيها، وأصبح أي شخص مهما كانت كفاءته بيصاب بالهلع وينام يحلم بكوابيس لو سمع إن شركته على وشك اتخاذ أي خطوة كبيرة، زي إنها تندمج مع شركة تانية أو تنقسم لشركتين أو تشتري شركة منافسة أو شركة منافسة تشتريها، عشان في كل الحالات دي هو مهدد بالطرد رغم إن دي كلها قرارات لا له يد فيها ولا ذنب في اتخاذها ولا قدرة على وقفها. شراسة كبار الرأسماليين نزعت من المواطن العادي إحساس إن مصيره في إيده ومحدش هيقدر يمنعه من تحقيق أحلامه لو اجتهد كفاية. الأمل شعور جميل ودافع عظيم، بس طول الأمل شيء مرهق وحمل يهد الجبال، والرأسمالية في الأصل مكانتش بس بتوعد بالأمل، كانت كمان بتوعد بشيء من عدالة التوزيع اسمه نظرية التساقط، وإن لما الأغنياء يغتنوا كفاية هتزيد استثماراتهم مما ينعكس بالضرورة على فرص عمل وأبواب رزق للطبقات المتوسطة والفقيرة. الشركات وكبار الأغنياء تفانوا في منع نواتج النمو الرأسمالي من الوصول لعوام مواطني الرأسمالية، سجلوا شركاتهم في الملاذات الضريبية وخرجوا مصانعهم للدول اللي العمالة فيها أرخص واستقدموا عمالة أجنبية رخيصة للمصانع اللي ماتنقلتش وعملوا جماعات ضغط على الحكومات لتمرير القوانين والإجراءات اللي هما عايزينها، عشان يتأكدوا إن التورتة بتاعتهم مش هياكل منها حد.
مواطنو الدول الرأسمالية مابقوش قادرين يلفوا في ساقية حملها بيزيد يوم عن يوم، وأعصابهم خربت من سباق الفئران اللي لا ينتهي، واللي كبار الرأسماليين بيزيدوه صعوبة وبيجعلوا إمكانية الفوز فيه أكثر هزالا و-الأسوأ- أكثر عشوائية كل يوم.
اللي وعد بيه ترامب وأمثاله الأوروبيين (التضييق علي المهاجرين اللي \”بيسرقوا\” وظايف أهل البلد، تغريم الشركات اللي بتنقل مصانعها برة البلاد ومحاربة مراكز القوى وجماعات الضغط اللي بتخدم مصالح الشركات) هو ببساطة محاولة إجبار الرأسماليين على مشاركة أهل البلاد اللي حققوا فيها نجاحهم على المشاركة في نواتج هذا النجاح مع مواطني هذا البلد، وبصورة أعم هو القشة الأخيرة اللي بيعلق عليها شعوب العالم الأول أملهم في نجاح النظام الرأسمالي، نجاح تتوزع عوائده على الشعب كله (حتى وإن لم يكن بالتساوي)، محاولة أخيرة لأن المواطن العادي اللي أغلب الظن عمره ما هيبقى ملياردير ولا نجم سينما ولا أسطورة مزيكا، يبقى عنده فرصة عادلة في العيش الكريم وفي تحقيق أحلام حتى لو متواضعة.. نقدر نقول هو الأمل الأخير للمنظومة الرأسمالية.