في طريقي للبحث عن حلول خارج الصندوق للاكتئاب الذي يداهمني من آن لآخر، قادني حدسي للجوء للغناء الشعبي، ووجدتني لأيام متتالية استمع بشغف تام لعبد الباسط حمودة , وعدوية, وأحمد شيبة وغيرهم من نجوم الفن الشعبي الحاليين، ووجدت أن التجربة كللت بالنجاح على سبيل المسكن المؤقت لأعراض الاكتئاب.
هشاشة
تعلمنا الأغاني الشعبية كيف نحزن بعزة نفس, وكيف نظهرالجانب الهش من ذواتنا, ذلك الجانب الذي منعنا البرستيج الخاص بنا من إظهاره, لكننا لو لم نفتح ذلك الجانب المظلم وننظفه ببعض من الدموع من آن لآخر، فإنه قد يتفاقم ويتحكم فينا ويحتل تفكيرنا ويشلنا عن الحركة تماما, من حقنا أن نحزن, وهذا لا ينفي أنه لا ينبغي أن نجعل حزننا دوامة تحاصرنا فنغرق فيها ولا نتمكن من الطفو, ولذا يتحتم علينا أن ننظم النزعة للحزن وللتفريغ عن ما يختلج نفوسنا من قهر وكبت وإحساس بالغبن, تلك المشاعر التي تراكمها هزائمنا المتتالية مع ارتطامنا بالحياة التي حلمنا بها مثالية عادلة, بها قدر من الصدق, تنتصر أحيانا -ولو قليلة- لأصحاب المبادىء, فإذ بها تصدمنا بزيفها وبهتانها الذي لا يكتفي بمخالفة الحقيقة، بل يتعمد تشويهها واستبدالها بالأباطيل, واذ بنا نجد أن الحياة ترفع كل من تخلى عن المبادىء مما لا يجعل هناك أي أمل في الأفق لمن يتبنى المبادىء ويوالي ويعادي عليها.
يا عين يا ليل
لطالما حيرتني المواويل في الأغاني الشعبية، اذ يظل المغني الوقت الطويل يردد \”ياليل.. يا عين\”, ويطيل ويقصر ويركز على مقام الصبا، فيبدو الحزن مستحكما في الموال وكأنما هو يترجى الليل أن ينقشع من فوق صدره هو وجمهوره المتأوه, وكأنما هو يجتر البكاء من عينيه وأعينهم, فتبدو حلقات الطرب الشعبي كنوع من حلقات العلاج النفسي شديدة العمق والتأثير والتغلغل في التراث المصرى, بما يحويه من حزن شديد الخصوصية.
عم بطاطا.. عمره ما طاطا لغير الله
إن ذلك التعبير الجمعي عن الحزن في حفلات الطرب الشعبي يحوي نوعا من ضرورة الجماعية في التعبير عن الحزن حتى لا يحمل التعبير عن الحزن أي نوع من المعرة أو اهتزاز عزة النفس عند المصري الجدع أو المصرية الأصيلة, هذا المعنة الذي يعبر عنه الشاعر جمال بخيت حين يصف عم بطاطا فيقول: عم بطاطا لذيذ ومعسل, عمره ما طاطا لغير الله.
ولا بد من يوم معلوم تترد فيه المظالم
تستدعي الأغاني الشعبية أيضا المبادىء البسيطة الفطرية وتتندر بها دون فلسفة, وتمنح النفس قدرا من الأمل عندما تتحدث دوما بيقين محذرة الباغي من أن الدوائر ولابد ستدورعليه, ومبشرة صاحب المبادىء بأنه سيأتي اليوم الذي ستعوضه فيه الحياة عن كل ما لاقاه فيها من عنت, وهذا ما يعبر عنه ابن عروس في مربعاته فيقول: ولابد من يوم معلوم تترد فيه المظالم, أبيض على كل مظلوم, وأسود على كل ظالم.
وجع أصلى
في منطقة الأغاني الشعبية تجد في حشرجة أصوات المغنيين وجع أصلي وحقيقي للغاية، وكأن تلك الحشرجة إنما هي تجاعيد الزمن تركت أثرها على أصوات هؤلاء المطربين, تلك الحشرجة التي وصفها أحد النجوم (الذي حاولت مرارا أن أتذكر اسمه فلم أفلح) عند وصفه صوت محمد رشدي بأن في صوته ما يشبه المطبات والحفر التي تلقاها أثناء السير على أرض ترابية غير مرصوفة, ما يعطيها معنى البكارة والصدق.
لحم ودم
ما يعيب الشخصية الشعبية هو وقوعها أسيرة للتقاليد المتعارف عليها في حال التعبير عن الفرح أو الحزن في العلن, وهذا النوع من الخجل من المشاعر والاهتمام بما قد يقوله الناس هو شىء مؤذ للغاية, إذ أن الاكتراث بنظرة الناس ينتقص من إنسانيتنا, فما الإنسان إلا لحم ودم, كتلة من المشاعرالجديرة بخروجه عن كل مالوف وفعل الشىء ونقيضه، فيبكي في الفرح ويضحك ضحكا هستيريا في الحزن من الذهول, وينتحب ويتشنج ويجري ويقفز فرحا أو يتمايل سكرا من وقع الوجع والفقدان, كل هذا يفعله الإنسان, وافتقاد ذلك -لاشك- ينتقص من الإنسانية ذاتها, ويجرد النفس من أسلحة تكافح بها أمراضها.
نحتاج حقا أن نلهي عقولنا المصرة على الاستغراق في الكآبة, فنترك المغني الشعبي يندب حظه ليل نهار ونتنصل نحن منه لنقوم بأعباء ومسئوليات الحياة مطمئنين إلى أن هناك من يقوم بواجب الحزن والاكتئاب والبؤس بدلا عنا, كان فعلا علينا أن نؤجر من يبكي حالنا وننصرف نحن لنقوم بمهام حياتنا, لم نكن نستطيع الاستمرار في تلك المهام لو لم نطمئن لوجود من يقوم بنعينا والرثاء لحالنا باستمرار ودون توقف, إننا نؤمن أننا نستحق ذلك، لكن كرامتنا لا تسمح لنا أن نعبر عن ذلك بالقدر الكافي، لكن المغني الشعبي لا يعبأ بأحد.. إنه حقا يمارس الشحتفة ليل نهار، ويتقاضى أجرا لذلك, فياله من دواء عظيم لكل أحزاننا.