\”إنهم لا يعرفون ما هو الخطر.. إنهم يعتقدون أن الخطر شئ يجرح جسديًا، شئ يُسيل بعض الدم ويحرض الصحافة على كتابة مقالات طويلة مثيرة.. ما هذا؟ إن الخطر هو الحياة وليس شيئًا آخر\”
هكذا أعلنها الأديب الياباني \”يوكيو ميشيما\” على لسان إحدى شخصياته في رواية \”البحار الذي لفظه البحر\”، وذلك قبل ٧ سنوات من تسديده طعنة لنفسه أسفل البطن كانت بمثابة خاتمة درامية مهيبة لحياته ومسيرته الثرية.
لم يكن ميشيما هو أول من تحدث عن خطورة الحياة ومأساة الوجود فيها وصاغ الفكرة في أسطر، بل سبقه إلى ذلك العديد من الكتاب والفلاسفة، وقبلهم ملايين البشر الذين مع مرور الزمن يئسوا من أن يجدوا جنتهم الموعودة على الأرض وأيقنوا بأن الخطر والألم والمعاناة أشياء لصيقة بصفة الحياة وأن ما من حي في هذا الوجود إلا وعليه أن يتجرع هذا الكأس المر مهما حاول الفرار منه.
كثيرًا ما تراودني في لحظات الصمت فكرة ملخصها: \”متي ينتهي كل هذا؟\”
بدأ السؤال يطاردني وبشدة مع التقدم في العمر والبعد بالتدريج عن طور الطفولة والتغول أكثر في عالم الشباب ومن ورائه عالم العمل ذو التروس التي لا تتوقف عن صنع ضجيج يصم الأنفس عن نغم الحياة -إن وجد ذاك النغم في الواقع حقاّ- كل يوم تطاردني خيالات عن يوم نصحو فيه من النوم فلا نذهب للعمل ونمارس فيه حياتنا دون أن ينتابنا القلق من مرور الزمن أو مما يخبئه لنا المستقبل. لكنها تبقى مجرد خيالات تنتهي بمجرد أن أبدأ في ممارسة روتين حياتي اليومية.
لست وحدي من تطارده خيالات عن الراحة والسعادة. كل إنسان عاش في هذه الحياة خطفت عقله موجة خيال تصور فيها أن نعيما أبديا قد يوجد على أرض هذا الواقع، لتأتي بعدها الحياة بصفعتها المعتادة لتعيده، فيرى وجه الواقع القبيح ويستيقظ من حلم يقظته الذي لا وجود له.. يطرح السؤال نفسه في ذهني باستمرار: \”متى ينتهي كل هذا؟ متى تأتي الراحة؟\” وتبدأ الإجابات في طرح نفسها على ذهني واحدة تلو الأخرى دون أن أجد إجابة تشفي صدري وتطفئ لهيب نفسي.
غير أن \”الموت\” يبقى أكثر الإجابات إثارة للاهتمام بين كل ما يجول في نفسي من أفكار واعتقادات.
تخيل معي يا عزيزي أنه سيأتي يوم لن أكون فيه مضطرًا للذهاب إلى عمل وتحمل ساعاته الطويلة بما فيها من مشقة وملل ومشاكل وتعب للذهن والنفس. يأتي يوم أتغيب فيه عن العمل دون أن أتعرض للفصل أو أخاف اللوم، فاليوم سيكون يوم راحة وحجة الغياب فيه مقبولة عند رؤسائي دون أن أنطق بها.. يرن هاتفي ولن أكون مضطرًا للإجابة والكذب أو إدعاء المرض والتعب حتى لا أتحرك من مكاني ولا أضطر فيه لمجاملة الآخرين وتحمل عتابهم أو سماع شكواهم أو الاهتمام بأمرهم.. يوم تنتهي فيه مشاعر الإحراج والعشم والمودة والكراهية والانزعاج والإحباط والاكتئاب.. يوم ينتهي فيه خوفي من حوادث السير وعبور الطرق السريعة وكمائن منتصف الليل والشوارع المظلمة والكلاب الضالة والاختفاء دون إبداء أسباب ورحيل الأحبة تاركين وراءهم الذكريات والأحزان. يومها يحزنون، ولكنني لن أحزن لأنني سأكون قد رحلت ورحلت معي قدرتي علي الحزن والشعور.. يوم يأتي فلا أخشي فيه الوحدة، فلم يعد للخشية فيه محل.. يوم لا أفتقد فيه أحدا ولا أتذكر أحدا ولا أحب فيه أحدا ولا أتقرب فيه من أحد، ولا أتعب فيه نفسي لا من أجل نفسي ولا من أجل أحد.. يوم يأتي فتكون فيه الوحدة خير رفيق لأنه لن يكون لي رفاق حينها ولا بعدها.. يوم بلا مشغوليات ولا أعباء ولا مسؤوليات ولا تفكير.. لا أهمية للماضي لأنه قد ذهب ولا أهمية للحاضر لأنه سيدفن معي ولا أهمية للمستقبل لأنه لا وجود له
\”- بتعيط على إيه يا معلم شوشة؟ على الميت ولا على إيه؟
– على الميت طبعًا.
– ليه؟ جعان ولا عطشان ولا يمكن بردان؟ طيب ده الميت هو اللي حقه يعيط علينا، يا عالم اعقلوا بقى ما تضحكوش الأموات علينا. تصدق بالله عليا الطلاق أنا يوم ما أرقد رقدته ديه، لأكون طاللكم من الخشبة ومطلعلكم لسانى يا مغفلين!\” (فيلم السقا مات 1976)
ورغم ما تقدمه إجابة \”الموت\” من إغراءات وإثارة، تبقى إجابة ضمن إجابات عدة على سؤال مستمر: \”متى ينتهي كل هذا؟ متى تأتي الراحة؟ وماذا بعد؟\”
إلا أنه وحتى لو لم تكن إجابة للسؤال الآن، فهي إجابة إجبارية على سؤال آخر لم يطرحه أحد، وسنصطدم بتلك الإجابة.
أظن أن التعامل مع الحياة بما هي عليه أمر لا مفر منه.