علا غالي تكتب: في تأويل النص

من المسائل الشائكة جدا في تفسير القرآن الكريم، تحديد من باسمه الخطاب ومن المخاطب. وإذا كان الخطاب باسم الحق، فمن يختص تعالى بتوجيه الخطاب له. وما يخصص لحوادث الزمان والمكان وما يجوز إطلاقه على العموم. يضاف إلى ذلك قضية الاجتزاء دون مراعاة السياق الذي وردت فيه الآيات. كما تدخلت في بعض الأحيان أمور فلسفية عميقة في تفسير النص، وعلى النقيض تماما تم تفسير بعض النصوص بالمعنى الظاهري لها.

كل ذلك ساهم في إعطاء المفسرين مساحة شاسعة لتأويل النص القرآني وإخضاعه للمرونة. وإذا نحينا دور سيطرة الثقافة جانبا فلا أعرف أيضا سر عدم تصحيح آيات شائعة في غير موضعها ولماذا توقف علماء اللغة في استخدام كل هذه الأدوات في إعادة فهم النصوص حتى أصبحنا نتداول التفسير كطلاب المدارس الحكومية الذين يحفظون الصور الجمالية للشعر وينقلونها كما جاءت في كتاب الوزارة.
فعشنا عصورا نظن أن الحق وصف النساء بأن كيدهن عظيم ولم يبذل المفسرون جهدا أن يوضحوا للناس أن العبارة جاءت على لسان فرعون! وفي قول آخر على لسان الشاهد وليس قوله تعالى. مع أنه في سورة (يس) مثلا تعدد القائلون ونسب كل قول إلى قائله. ولكن يبدو أن استضعاف الرجال للنساء كان سببا لرواج تلك الفكرة لإرضاء غرورهن واستحسنتها النساء واشترك المعنيون بالتفسير في تركهم لظنهم.
وعندما يتعلق الأمر بالتفسير يقول تعالي:

(يا نساء النّبيّ لستنّ كأحد من النّساء إن اتّقيتنّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الّذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهليّة الأولى وأقمن الصّلاة وآتين الزّكاة وأطعن اللّه ورسوله إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا * واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات اللّه والحكمة إنّ اللّه كان لطيفا خبيرا)

سورة الأحزاب: 32-34.

 

والتي تم تفسيرها على أنها آداب عامة لنساء النبي وعممت على جميع المسلمات من بعدهم، كما استخدمت آية \”وقرن في بيوتكن\” كدعوة لحجب المرأة عن الحياة العامة.
وقد حذر الله نساء النبي من ضعف العذاب إذا أتين بفاحشة وبشرهن بضعف الثواب، ففسرت على خصوص نساء النبي فيقول:

(يا نساء النّبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مّبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على اللّه يسيرا * ومن يقنت منكنّ للّه ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرّتين وأعتدنا لها رزقا كريما)

سورة الأحزاب: 30

 

مع أن الخطاب في الآيتين موجه لنساء النبي، لكنه عمم في الآية الأولى وخصص في الثانية.

هؤلاء علماء كان ولاؤهم للثقافة وأحيانا السياسة قبل الدين.. ثقافة لا تكلف الرجل عناء الأمر الإلهي بغض البصر، في الوقت الذي لا تدخر جهدا في تكليف المرأة بما لا تطيق باسم الدين. فبأي منطق ندعو الآخرين لاعتناق الإسلام، في الوقت الذي نطالب المسلمين بالامتثال إلى شيوخ دون مراجعات، مع أن تبني هذا السلوك يحجب معتنقي الأديان المختلفة عن الإسلام إذا ما التزموا بالامتثال إلى ممثلي معتقدهم وتبني نفس الدعوات بالتسليم الأعمى وحظر التفكير والمراجعات.
وقد صدمتني إحدى العالمات الأزهريات برأي أقل ما يوصف بالتطرف عن حق المسلم في اغتصاب سبايا الحروب بدافع إهانتهن، ولا أدرى من أين أتت ببرهان من الكتاب بفكرة وجوب إهانة أسرى الحروب رجالا أو نساء!

بل على العكس فقد أكد الإسلام دائما علو اكرام الأسرى ومعاملتهم بالحسنى. وقد أجد للعلماء من الرجال هوى لترويج فكرة كتلك المتطرفة، ولا أجد مبررا سويا للعالمات أن تكون معينا لهم على الهمجية والتخلف.
وتأملت سياق الآيات التي \”تنظّم ولا تشّرع\” علاقة المسلم رجلا أو امرأة بملك يمينه تلك الثقافة التي كانت شائعة في عصور قديمة وفي مجتمعات متخلفة واتخذت ذريعة لاستباحة النساء كسبايا في الحروب، فيخاطب الحق الإنسان في سورة المعارج فيقول:
(إنّ الإنسان خلق هلوعا (19) إذا مسّه الشّرّ جزوعا (20) وإذا مسّه الخير منوعا (21) إلّا المصلّين (22) الّذين هم على صلاتهم دائمون (23) والّذين في أموالهم حقّ معلوم (24) للسّائل والمحروم (25) والّذين يصدّقون بيوم الدّين (26) والّذين هم من عذاب ربّهم مشفقون (27) إنّ عذاب ربّهم غير مأمون (28) والّذين هم لفروجهم حافظون (29) إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين (30) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (31) والّذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (32) والّذين هم بشهاداتهم قائمون (33) والّذين هم على صلاتهم يحافظون (34) أولئك في جنّات مكرمون (35)

 

فهل خصص المفسرون الآيات للذكر فقط أم هي لعموم إلا الآية ٢٩ و٣٠

والتي تبيح الاستمتاع بملك اليمين، فهي تخص الرجال فقط؟

مما يثير تساؤل عن سبب إباحة الله للنساء أن يبدين زينتهن إلى بعض الأقارب والأزواج وما ملكت أيمانهن، فالتفسير إما أن يكون ملك اليمين من المحارم أو العكس.

ولتغليب أحد الاحتمالين يقول تعالى في سورة النساء:

(ولا تنكحوا المشركات حتي يؤمنّ ۚ ولأمة مّؤمنة خير مّن مّشركة ولو أعجبتكم ۗ ولاتنكحوا المشركين حتّىٰ يؤمنوا ۚ ولعبد مّؤمن خير مّن مّشرك ولو أعجبكم ۗ أولٰئك يدعون إلى النّار ۖ واللّه يدعو إلى الجنّة بإذنه ۖ ويبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون)

 

وعلى هذا كيف يبيح الله للمرأة الزواج من أحد المحارم (العبد المؤمن) إذا تم تفسير آيات إبداء الزينة على أن ملك اليمين من المحارم؟

وقد أجد منطق أعوج في مجتمعات متحفظة وتحت وطأة ثقافات عنصرية لم يسلم منها مفسرون أرادوا ترك بابا مواربا أن يجد الرجل له متعة يبيحها لنفسه باسم الدين، في الوقت الذي أعانته فطرته السليمة أن يراها فسادا لإباحتها على العموم، لكنها عجزت على أن يراها فسادا لبني جنسه.
وأتفهم رفض مجتمع اليوم قبول فكرة مجتمعات كانت تبيح الاستمتاع بملك اليمين للرجال والنساء على السواء. لكن أود أن أذكره برفضه أيضا لفكرة زواج الأخ من أخته، وهي ممارسات قد حدثت بالفعل في عصور سحيقة ولها أسبابها ولا ينكرها أحد، وهي اليوم أشد مما أشير إليه.

كما أرجو أن يتفهم اصحاب العقول المستنيرة أن إثبات هذا الأمر ليس إطلاقا دعوة بالعودة إلى الوراء، بل ضرورة لإثبات أن تلك الممارسات ولى عهدها وليست من الدين في شيء ومن يرغب في استدعائها وإحيائها فليعلم أنه من زمرة أولئك الذين يبغون في الأرض فسادا، وأساليب الاستناد إلى آيات القرآن لا ينبغي أن يستغل في الباطل.
كما أنه لا يمكن للإسلام إباحة اتخاذ سبايا الحروب في مقام ملك اليمين لأسباب، أولها أن الإسلام لم يشرع هذا النوع من العلاقات.

هذا النوع من التجارة كان قائما بالفعل في ثقافات عدة وكان على الإسلام التعامل معه لدحره وجزى الله عاتقي الرقاب أعظم الثواب. فلا يمكن أن يشرع الحق ما يساهم في انتشار فكرة دعا إلى نبذها.

والسبب الثاني أنه بنفس القياس لسبايا الحروب أن يحسبن في عداد ملك اليمين وبيعهن في الأسواق، فما يمنع بيع أسرى الحروب من الرجال وأن يعرضوا في تلك الأسواق لمن يرغب من النساء، فسياق الآيات القرآنية لا تنكر على المرأة أن تملك يمينا من الرجال، وإنما ما ينكره المفسرون هو حدود علاقة المرأة بملك يمينها. وإن سألت شيخا متشددا عن هذه العلاقة سينفيها بالتأكيد، وإن سألت آخر أقل تشددا فسيجيب بأنه لا فائدة من هذا البحث، حيث إنه لا يوجد اليوم هذا النوع من التجارة. ولكني أرى أهمية إثباته هو دليل قطعي أنه لا ينبغي بأي صورة من الصور إحياء أفكار وممارسات عصور سعى الإسلام دائما إلى التغلب على تخلفها وجهلها رغم أنف المفسدين من المفسرين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top