علا غالي تكتب: العشوائيات في مصر

\"\"

لا اعرف سرا يدعو الدولة أن تخفي نواياها بخصوص تطوير العشوائيات في مصر فتعلن عن سياسات واضحة للقضاء عليها لتكتسب تأييدا ودعما من الرأي العام الذي لا يكف عن الشكوى من تفشي الأحياء العشوائية وسط العاصمة.
لكنها عوضا عن ذلك تصيبه بحالة من الذهول وشلل التفكير عندما تفاجئه صبيحة أحد الأيام بالقيام بعدد من الانتهاكات ضد أهالي إحدى المناطق العشوائية.. فلا تمنحه فرصة التأييد أو المعارضة وإنما الوقوف عند اعتاب حالة من عدم الاتزان لا يلبث بعدها إلا أن ينهال بالهجوم على سياسات الدولة ولا يسعه إلا تأييد للعشوائيات.
وأتصور أن الرأي العام قد أخطأ ساحة المعركة التي يتحتم عليه النزول إليها.. فساحة معركته ليست في الانتصار للعشوائية ولكنها محاربة الهمجية.. فالعشوائية والهمجية ليسا طرفي نقيض يسترعي نصرة أحدهم على حساب الآخر بل يجب نبذ النظيرين وإعلان الرفض لهما على الملأ، وأن كان هناك بدا من اعتبار أهالي العشوائيات ضحايا فهم ضحايا فكرهم العشوائي في المقام الأول واعتدائهم على الأراضي ثم ضحايا دولة فاسدة غضت الطرف عن تقويم هذا الوضع ومعالجته وكأنها لم تنظر قط لخريطة العاصمة ومساحات أراضيها فانتهجت خططا لا تقل عشوائية عن فكر الأهالي ولا تزال.
وإذا كانت هناك مسئولية فليتحملها الطرفان.. الدولة والأهالي معا.. فأنا أطالب الدولة بالكف عن همجيتها في معالجة ما أفسدته على مدار عقود من الزمن وأن تتخذ من الآليات التي تتبعها الدول المتحضرة هاديا للقضاء على العشوائيات في مصر بدءا بعمليات حصر المتضررين ثم التفاوض وإيجاد البدائل لإجلاء الأهالي تدريجيا ثم البدء في إعادة تقسيم الأراضي وعرضها للبيع على مستثمرين وفقا لمعايير وقوانين تضمن حق سيادة الدولة على أراضيها.
كما أطالب الأهالي بتفهم سياسات الدولة حال تبنيها آليات عادلة لإجلائهم، وعلى الطبقة المثقفة المساهمة في توعية الأهالي بدلا من اتخاذهم ذريعة وسلاحا للانقضاض على النظام السياسي.
وإذا نظرنا لجذور قضايا العشوائيات في مصر نجد أنها تبدأ بطرفين قد انتهجوا من الفساد والفوضى قانونا.. فالدولة غائبة والزحف على المدينة لا يتوقف والقانون غير مفعل.. وبعد أن تنتبه الدولة لحجم انتشار الكارثة تحاول معالجتها بمزيد من الأخطاء وتقوم بتوصيل بعض الخدمات لأهالي هذه المناطق وتعمل على تقنين أوضاعهم.. وما تتمادى فيه الدولة من سياسات لمعالجة الأزمة لا يساهم في حلها بل يحولها إلى كارثة يقف عندها الرأي العام ممزقا بين رغباته في التطوير وبين تضامنه مع الأهالي كحالات إنسانية.
اتحدث اليوم عن العشوائيات في مصر بسبب الجدل الذي أثير مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي فيما يخص \”جزيرة الوراق\” تحديدا.
جزيرة الوراق تعد من أكبر الجزر النيلية في جمهورية مصر العربية إذ تبلغ مساحتها ١٤٠٠ فدان تقريبا وهي تتوسط المسافة بين مطار القاهرة الدولي شرقا ومدينة السادس من أكتوبر غربا كما يجاورها من الجنوب جزيرة الزمالك.. أي إن الوراق هي قلب العاصمة ونبضها ولا يمكن لوطني غيور أن يقبل بهذا المظهر غير اللائق كواجهة لعاصمة بلده، فنحن نحتاج إلى وقفة ننظر فيها إلى الخلف بين ماضٍ ليس ببعيد يقدر بعقود قليلة من التاريخ عندما كانت القاهرة أحد العواصم الأجمل على مستوى العالم ونظرة أخرى فاحصة لحالها اليوم والذي تدمع له العين ويندى له الجبين.
لا انسى هذا اليوم الذي زرت فيه إحدى متاحف واشنطن العاصمة الأمريكية عندما وقعت عيني على لوحة كبيرة تغطي أحد جدرانه عن العشوائيات في مصر كنموذج حي توضيحي يعكس انهيار الحضارات. فأي رسالة مهينة للشعب الأمريكي عن مصر وحضارتها وأي طعنة لقطاع السياحة؟!
إن مجموعة الجزر التي تتوسط نيل القاهرة هي عنوان حضارتها ولا يمكن لمصري واعٍ غيور على وطنه أن يقبل بالعشوائية عنوانا.. فدعوتي إلى الدولة أن تكف عن مراوغتها والأساليب الملتوية والهمجية لعلاج القضايا وأن تتبنى الشفافية والوضوح.. فلا أرى شيئا في الإعلان عن نواياها وعن خطة إصلاح واضحة لتطوير العشوائيات والقضاء عليها، فالجزيرة يقطنها اليوم مائة ألف مواطن، أي بمعدل عشرين ألف أسرة تقريبا.
فلا أظن أنه من الصعب على الدولة توفير عشرين ألف وحدة سكنية لهذه الأسر إلى جانب التفاوض على بعض التعويضات المادية لأصحاب التراخيص، فلا أرى منطقا يجعل الدولة لا تنفق ملايين الجنيهات لنقل العشوائيات خارج العاصمة وتنفق مليارات الدولارات لنقل العاصمة خارج العشوائيات!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top