علا الشافعي تكتب: الأرض لآخر نفس.. من هنا مر محمد أبو سويلم

عظيمة هى السينما التى ترصد واقعا وتستشرف أحداثا.. وأجمل ما فيها أننا نستطيع أن نرى كيف كنا وماذا أصبحنا.

46 عاما مرت على إنتاج واحد من أهم أفلام السينما المصرية والعربية.. مشاهد كثيرة منه تقفز إلى ذهنى. جمل حوارية من شدة عمقها تطاردنى.. إنه فيلم «الأرض» المأخوذ عن رواية المبدع عبد الرحمن الشرقاوى، ومن إخراج العبقرى يوسف شاهين، وسيناريو وحوار المتميز حسن فؤاد.

هو من تلك الأفلام الراسخة فى الروح، نستدعيه فى أحيان كثيرة وتحديدًا كلما تأزمت وكلما شعرت بالعجز عن فك شفرات الواقع.

مشهد محمد أبو سويلم والذى جسده العبقرى وفلتة الأداء محمود المليجى، وهو متشبث بأرضه يرفض أن يتركها لآخر نفس.. أبو سويلم مربوط فى حصان المأمور الذى يجره وراءه وهو يجرى بسرعة، وأبو سويلم يتمسك بتراب الأرض والزرع ويموت.. أبو سويلم مختلطا دمه بطين أرضه التى رفض التفريط فى شبر واحد منها.

بالطبع فإن الكثير من الأجيال الشابة لا تعرف «الأرض»، ولم تشاهد الفيلم الذى يعد واحد من أهم 10 أفلام فى السينما المصرية والعربية، فالفيلم لا يعرض فى التليفزيون المصرى، ولا يذاع إلا فيما ندر على القنوات العربية التى اشترته، وهو فيلم لو يعرفه الجيل الجديد، سيدركون قيمته، أو على الأقل قد يساعدهم على فهم هذا الواقع الملتبس والمربك الذى بات من السهل فيه التفريط فى كل شىء.

يحكي الفيلم عن نضال الفلاحين المصريين ضد الإقطاع فى ثلاثينيات القرن الماضى، ولكنه فى الوقت نفسه يحمل، رغم بساطته التعبيرية، مضامين وإسقاطات على واقعنا الحاضر، ويتحدث عن صراعنا الحضارى، ضمن رؤية سياسية واجتماعية عن الواقع المصرى والعربى.

هناك في هذه القرية المصرية الصغيرة، يدور صراع بين الفلاحين، وعلى رأسهم محمد أبوسويلم (محمود المليجى)، وبين الإقطاعيين، حول رى الأرض، والذى كان يتم بالاتفاق حينا وبالتراضى فى أحيان أخرى فى كل قرية زراعية، نظرًا لقلة المياه فى هذا الوقت، ولأن الأولوية كانت للباشا الإقطاعى صاحب المساحة الأكبر من الأراضى الزراعية، وهو الذى كانت تنتصر له الدولة من خلال أجهزتها الأمنية والعسكرية.

يزداد الصراع ويشتد عندما يقترح محمود بك إنشاء طريق يربط بين قصره والشارع الرئيسى، مما يستلزم نزع جزء من أراضى الفلاحين لشق الطريق، فيثور الفلاحون دفاعاً عن أرضهم بقيادة محمد أبو سويلم، الذى استطاع ببساطة منطقه أن يجمعهم – راجع مشهد إخراج البقرة التى سقطت من الساقية ونزول رجال القرية لإخراجها وتكاتفهم يدا بيد وتوحدهم بعد عراك على حصة المياه، واكتشافهم أن عراكهم يجب أن يوجه للإقطاع والحكومة.

ولكن للأسف لا يستطيع تحالف أهالى القرية (الفلاحين) أن يصمد أمام تحالف الإقطاع والدولة.. فقـد نجح هذا التحالف الأخير فى إحداث شق بين صف الفلاحين، يجد معه محمد أبو سويلم نفسه وحيداً فى النهاية مع أقلية ضعيفة لا حول لها ولا قوة، فالكل يبيع لمصلحته الشخصية.

المثقف أو المتعلم «محمد أفندى» جسده الفنان حمدى أحمد، والتاجر صاحب محل البقالة «الشيخ يوسف» جسده عبد الرحمن الخميسى، و«الشيخ حسونة» (يحيى شاهين)، وهو المناضل الذى يعيش على أمجاده الوطنية السابقة، يتخلى فى اللحظة الحاسمة عن موقعه النضالى المفترض ومواقفه التى يدعيها طوال الأحداث، حتى يضمن مصلحته الخاصة، وأن تترك أرضه كما هى بعد أن عقد اتفاقا مع الباشا.

عظيمة هى السينما التى ترصد واقعا وتستشرف أحداثا، وأجمل ما فيها أننا من خلالها نستطيع أن نرى كيف كنا وماذا أصبحنا، وكيف يكون التقزم أمام الآخر أيا كان؟!

كيف أن هناك طوال الوقت نماذج مكررة تعيد نفسها، تقفز أمامنا من سطور التاريخ وأفلام السينما، ونجد لها ظلالا، بل أحيانًا نماذج تفوق خيالنا، من رجل الدين الذى يبيع ويوظف دينه طبقا لمصلحته، ورجل السلطة –الباشا- الذى لا يعنيه سوى مجده، حتى لو كان على حساب أرض الفلاحين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top