قلوبنا مازلت مغمورة بالدهشة رغم سطوع الحقيقة، ونحن نشاهد سحابة ثقيلة متنقلة بين صفر مريم ودموع دميانة القابعة في السجن الآن، تغلفنا الحيرة ونحن نسمع صرخة مريم وصرخات أخريات وضعن حياتهن على المحك فدء للوطن، فلم يحصدن إلا ارتداء البدلة البيضاء وانتزاع حريتهن.
يحيط بنا كثير من الهواء العطن الثقيل الذي يخترقه بين الحين والآخر عويل وصرخات استغاثه من الوحوش المفترسة التي تمضي مستعرة تنقض، تمزق, وتشرب دماء الضحايا، وحوش مخاتلة مخادعة تنشر صفير الغواية، تلتقي مع قلوب وعقول مليئة بالأكاذيب تفوح منها روائح عطنة وأنفاس كريهة، أولئك الذين يدّعون الفضيلة والعدل، وهم أكثر البشر ظلما وطغيانا.. حافروا قبور الأحياء يطلبون من مريم أن تترك أحلامها التي شيدتها بكدها وتعبها على مدار سنوات من التفوق، وأن تتخلي عن فرحها, فحلمها طوباويا فاجرا، وعليها ألا ترى في اسم \”ملاك\” إلا غيمة كوابيس، فهم لا يأبهون بسرقة حياتها ومنحها لآخرين.
يفعلون ذلك بلا أدني تأنيب ضمير أو ندم، بل ربما يفعلون ذلك بتلذذ وشهوانية، وهم يرون دمعاتها المنكسرة والخوف من المستقبل المظلم.. نعم هذا خطها، هكذا قال الطب الشرعي مثلما قال إن خالد سعيد انتحر, فانفجرت شرارة الثورة، لأن كل مصر تعرف أن هذا كدب.
من الذي يقف وراء كل هذا؟ ديوان الوزارة؟ مافيا الكنترول؟ أبناء وبنات الفاسدين؟ السلطة والنفوذ؟ لماذا سارع بتكذيبها الوزير قبل إعلان نتائج التحقيق؟
أينما نرنو بأعيننا حولنا أو نولي وجوهنا، لن نجد إلا الفساد، فسارقي \”مائة\” مريم سيتخرجون أطباء، مهندسين، جراحين، مقاولين، رجال أعمال، قضاة، إعلاميين، محامين، محاسبين، وزراء، مسئولين.. كلهم فاسدين بامتياز، وسنحصد حصاد الهشيم عمارات تنهار، أرواح تقتل، قضايا يغيب عنها العدل، ضحايا وراء القضبان، وإعلام مزيف، وصفقات تتم على أجساد الفقراء، لأنهم تغذوا على \”صفر مريم\” وعلى زملائها
الآخرين الذين ملأت الكحكة الحمراء ورقة إجاباتهم.
هذا هو المستقبل الذي ينتظرنا.. تركة ثقيلة وحياة مظلمة، إنها لعبة الاستحواذ وإيثار الذات، من أجل أن يخفض الإنسان منا جناح الذل، ويركع ويستسلم، ولا يجد متكأ لذراعيه ليتضرع بهما لربه أو موطئا لقدمية في وطنه، كلاب تنبح في وجهك طوال الليل والنهار، شبه حياة وشبه موت.
رفضت مريم مقابلة البابا تواضروس الثاني لأنها بحسها العفوي والباحث عن الحق والعدل، ترى أن قضيتها قضية رأي عام.. قضية وطن يعشش فيه الفساد, لا يتعلق الأمر بفئة أو جماعة أو طائفة أو معتقد أو دين, قطعت مريم الطريق أمام أي محاولة لتحويل القضية عن مسارها الأساسي.
تعلمنا مريم أن الفساد لا يعرف ديانة أو جنس أو عرق، فهو خبيث خبث أصحاب الصبوات الشريرة الذين يحلبون بقرة الفساد ويوزعون حليبها على أصحاب القلوب الضعيفة ليشربوا منها ويسبحوا في بركة حضيضهم وقاذوراتهم.
إن الفساد عميق, أعمق من الزمن الذي نجتر أوجاعه, وأصحابه يغدون كل يوم أحقر وأكثر قبحا يشقون بفسادهم روح جوف الوطن.
صفر الفساد يطال د. منير مجاهد باستبعاده من مشروع الضبعة، مكافأة له على تاريخه النضالي المشرف ووطنيته الزائدة, صفر الفساد يبرر بلطجة أمناء الشرطة واعتبار تظاهرهم وقفة احتجاجية، بينما شباب وشابات الوطن يقبعون في السجون لتظاهرهم السلمى, وترقد شيماء الصباغ شهيدة في قبرها لأنها كانت تحمل وردة بين يديها الرقيقتين, ويحظر صفر الفساد طلاب الأقاليم من كليات القمة بالقاهرة, ويستسني القضاة والضباط من حظر كليات القمة.. مشاهد طويلة لم تخرج باقتدار ولم يتقن فيها الممثلون أدوارهم.
لن ينصلح حال البلاد بدون نسف المنظومة التعليمية كلها وبنائها من جديد والبدء فورا في فتح ملفات الفساد والمحسوبية وشراء الذمم في كل مؤسسات الدولة, والتوصل لحقيقة صفر مريم.. من الذي باع ضميره وتقبل سرقة جهد فتاة مصرية شريفة آمنت وصدقت أن هناك عدالة وتقديرا لشرف الاجتهاد.. يجب تشكيل لجنة مستقلة من خبراء خطوط مشهود لهم بالنزاهة وغير خاضعين لسلطة الدولة، وكذلك توسيع عناصر ودائرة التحقيق في تتبع أوراق الإجابات وتعامل الكنترول معها وتتبع الأشخاص الذين يقومون بذلك ليظهروا لنا الحقيقية.
آه \”مريم\”.. أية شوادر تعبر روحك الآن؟ وأية حرقة تلهب صدرك بعد استيلاء الآخرين على جهدك؟
سلاما عليك مريم فقد فضحتي خبايا قاعهم، لن ينجحوا أن تجثي على ركبتيك مستجدية، ولن ينجحوا أن يلطخوا سماءنا بغمامة الفساد والغش والتزوير والسرقة والاحتيال والخداع، فصوتك العالي ريح صرصر عاتية ستكنس فسادهم واحتيالهم، وسيغدون كالحشرات ولن ينجحوا أبدا في شق روح العدل مهما غاب لفترة.
اقرأ أيضا:
رامي يحيى يكتب: رأي “فرويد المصري” في “صفر مريم”