سيدة خمسينية تحمل أرنبا أبيض وشنطة جلدية صغيرة، لا تحوي إلا سكينا، ركبت نفس القطار الذي كانت تستقله صديقتي من القاهرة للأسكندرية.. كانت السيدة تغني بصوت جميل في مشهد إحتفائي مبهج ومهيب.. استطيع أن أتصور أن داخل عقلها أوبرا كاملة، ومسرحا وستائر قطيفة بلون النبيذ الأحمر.. عندما حاولوا أن يسكتوها، أشارت لهم بالسكين في شراسة، ثم أغمدتها في الحقيبة، وأكملت الغناء، فتركوها لتكمل الغناء، ولم تسمعهم وهم يصموها بالجنون.. هي فقط تسمع موسيقاها الخاصة، حتى جاءت محطتها وغادرت القطار حاملة الأرنب والحقيبة.
ثورة ٢٥ يناير هي أول ثورة أشهدها في حياتي.. حياتي الديناميكية المليئة بالشغف والتجارب، لكنها مثل موجة البحر في نعومة تحركها ومنطقيته، لذا أن اشهد ثورة.. نقلة نوعية.. أن اعيش واحدة.. ثورة صغيرة خاصتي.. تمثل لي تأثير ذلك في.. أنا.. عزة.. الفتاة الهادئة التي تلمس هشاشتها أغلب الوقت.. تؤجل أحلامها، وتسرق طاقتها التفاصيل الصغيرة المرهقة، وتشعر أنها دوما بأنتظار حياة جديدة.. حياة يعلوها شريطا أخضر من الطاقة لم يمس بعد.. مثل ألعاب الكمبيوتر.. تلك الفتاة عرفت أنها تمتلك روحا محاربة.. قد تحتمل الكثير من الأشياء، لكن كبرياءها وإنسانيتها غير قابلين للمساس.. ببساطة شديدة لأنها لا تملك سواهما.
بالنسبة لي.. أثر الثورة لم يتجل فقط في تجاوب الحكومة مع واقعتي أو واقعة سواي، بل تجلى في أن اتحرك أنا أصلا.. أن يطول صبري حتى انال حقي، ولو حتى نسبيا.. أن أدرك أنني قوية ومؤثرة.. أن احمل خوفي وإحباطاتي وثقل أحلامي المؤجلة، وتراب الطرقات واغرس خطوات صغيرة في الأرض لابقى متسقة مع نفسي ومبادئي.
اعلم أن قصتي الصغيرة، ستنسى بعد أسبوع أو اثنين، لكني اؤمن بأثر الفراشة.. بقطرات المياه الصغيرة التي تفتت الحجر، فيخرج نبتا أخضر صغيرا، متحديا كل قواعد الفيزياء.. الحياة دوما تجد طريقا.
كل تصريحات الصحف على لساني، تعني بكواليس ما حدث في مجلس الوزراة، وفي ما دار في اجتماع رئيس الوزراء ووزير الثقافة بي.. حسنا.. أنا مهتمة أكثر ان اروي كواليس ما كان يحدث داخل عقلي.. بالنسبة لي هذا هو محرك كل شيء.. ماذا يعني الاعتذار ولما أصر عليه؟
هل من المفترض أن استغل لقائي هذا لتحقيق مصالح ما؟ هل من المفترض أن اقبل عرض دكتور شهير، عرض أن \”يدبس\” لي معدتي عشان أنا أكيد متضررة ومتألمة ؟ هل هافكر اخس بعد الواقعة دي كما سألني صحفي ما؟
الاعتذار لم يكن من د. عبد الواحد النبوي لي بصفتينا الشخصية.. الاعتذار من رئيس لمرؤوس على كيفية إدارته غير الموفقة للأمور، لذلك فإن الأمر كان حقا أكبر مني.. ليس حبا في العناد، ولا في الضجة الإعلامية.. وشكرا أنا لا احتاج لأي عمليات من أي نوع لإصلاح جسدي، لأنني ببساطة احبني .. لم اكن دوما بمثل هذا التقبل لنفسي.. عادة الفتيات الشرقيات لا يتربين على أن يحببن جسدهن، يشعرن بالاعتزاز به ويقمن بحمايته ويعرفن أنه ملكيتهن الخاصة، ولا حق لأحد أن يتفحصه أو يقيمه، ولا داعي أبدا أن تظل الفتاة رافضة لجسدها.. إما أن تتقبله وتحبه وتفخر به، أو تسعى لتغييره بما لا يضرها، وبناءا على رغبتها الشخصية، وقد اخترت أن احبني كما أنا.
انا نحاتة، وكاتبة.. هذا هو شغفي.. لست حقوقية أو صحفية.. هولاء النبلاء الذين يملأون الدنيا صراخا، ويكونوا صوتا قويا لا يهدأ حتى تستتب الأمور، وبالتأكيد لست زعيمة معارضة، وأجيد التعرف على من حاول الاستفادة من واقعتي لتحقيق مكاسب شخصية له، واعرف أيضا الحدود التي اسمح بها حتى لا تتم المتاجرة بموقفي، أو المزايدة عليه.
أنا متفهمة تماما حماس البعض وخوفه على حقي، ومتفهمة حتى أنه عاش في حكايتي إنكساراته الشخصية، وقرر أن يحارب كل أشباحه من خلالي.. المزايدة لا تفيد أحد.. أنا خاطرت بكل شيء طواعية، وقفزت قفزة ثقة دون شبكة أمان، وكنت قاب قوسين أو أدنى من أن افقد وظيفتي الحكومية الثابتة، ومصدر دخلي الوحيد، وربما أجد نفسي معرضة للمساءلة القانونية، لو صدقت مديرة المتحف في تلميحها، وحررت ضدي محضر سب وقذف، أو أن يتم تجاهل شكوتي وينساني الناس.. وقتها كنت سأعلم أن ليس لي مكان في مصر، واحمل حقيبتي إلى أرض أكثر رحابة.
عزيزي المزايد.. اتمنى أن تكون أنت التغيير الذي تريد رؤيته في العالم وتعطيني مثالا عمليا.
كانت مطالبي واضحة من البداية.. الاعتذار الرسمي – والذي كان ثقيلا على د.عبد الواحد النبوي، لكنه وصلني من السيد رئيس الوزراء مشكورا في سابقة هي الأولى من نوعها وبشكل رسمي معلن.. ليست \”قعدة عرفية\”.. كان اجتماعا في مجلس الوزراء مع أطراف الموقف.. بعد مناقشة دامت من ٢٠ إلى ٣٠ دقيقة بين م. إبراهيم محلب وبيني، في حضور د. عبد الواحد – والذي التزم الصمت طيلة اللقاء- أكدت فيها أن الأزمة بالفعل كانت على وشك الانتهاء بعد مكالمة د.عبد الواحد ووعده لي باعتذار مكتوب لم يحدث أبدا، وأوضحت وجهة نظري في أن الدعابة تكون بين أطراف متكافئة، وطالما أنني لا استطيع رد \”الدعابة\” للوزير، فهي إهانة وليست دعابة.
قال لي السيد رئيس الوزراء نصا: \”لا يرضيني أن يشعر أي مواطن مصري بالإهانة، وما حدث كان خطأ غير مقصود بين زملاء، وأنا ادعوكي لمسامحة د. عبد الواحد والصفح الجميل\”، وأمام هذا التصرف الراقي، لا يسعني إلا أن اشكر السيد رئيس الجمهورية والسيد رئيس الوزراء لاهتمامهما، وكان المطلب الثاني حل مشكلة الورق الخاص بي، وسلمني المهندس إبراهيم محلب صورة القرار يدا بيد، وأوصلت صوت زملائي ممن لديهم نفس مشكلتي، وطلبت أن يسمح لهم ان يتوجهوا للدكتور عبد الواحد النبوي وزير الثقافة لحل أزمتهم المعلقة، ووافق.. هذا مكسب كبير في نظري.
لا يجب أبدا اختزال القضايا في أشخاص، وأثق في أن المهندس محلب صادق فيما وعد به، وأدعو زملائي الأفاضل للسعي وراء حقوقهم حتى يصلوا إليها كاملة، وارجوهم بسرعة اتخاذ هذه الخطوة، والفرصة سانحة حتى لا يذهب كل هذا الدعم أدراج الرياح، والخطوة القادمة التي اتمناها أن نسعى إلى تعديل قيمة مكافأة الماجيستير \”الـ ٨٠ جنيه\” سابقا.
توجهت بجزيل الشكر وفائق الاحترام نحو رد الفعل المجتمعي نحو الموقف، والذي وجه دفقات من الغضب نحو موقف الوزير، ورد الفعل الآخر كان من مجموعة من مثقفي وأدباء وفناني مصر زملائي وأساتذتي الأفاضل.. تحية محبة خالصة لكم.
وعن موقفي الشخصي من البيان التضامني.. لقد قمت بالتوقيع عليه، ولازال موقفي منه ثابتا، وهذا البيان لم يصدر من أجلي بشكل شخصي، بل لمعيار تعامل وزير مع موظفة، ولتحفظات أخرى يراها قطاع من مثقفي مصر..كما ارجو ألا يؤثر انتهاء الواقعة على البيان بشكل سلبي، وارى أنه طريقة حضارية للاعتراض، وأن الحراك والأخذ والرد يكسر الركود ويشجع على مزيد من العمل الفعال.
نعود لرد الفعل الرسمي.. كنت محبطة بشدة لتجاهل شكوتي، والصمت التام من الجهات الرسمية.. لا الاعتذار الذي تم وعدي به من د. عبد الواحد، ولا من المجلس القومي للمرأة.. فقط ما تلقيته هو البيان الذي اتهمني باستقطاع الكلام من سياقه وإساءة فهمه، وأن السيد الوزير كان بيلطف الجو، وبعدها التهديد بالتحقيق، وسلسلة من التصريحات المغلوطة الموجهه ضدي.
أنا لا احبذ الحلول من نوعية \”المظلة تحت المقعد\”، أو \”الباراشوت جوه الصندوق\”، لكن في ظل هذا التجاهل المتعمد، قررت أن ارسل شكوتي لرئيس الوزراء وللسيد رئيس الجمهورية يوم الخميس الماضى، لم تكن تلك هي الآلية المثلى، لكن لم يكن هناك بدائل عنها.
بناءا على ذلك تلقيت ذلك الاتصال الهاتفي من السيد رئيس الوزراء، والذي اخبرني بـن الضجة الإعلامية ليست مفيدة، وإنما معطلة للعمل، وابلغني باهتمام السيد الرئيس، وأنه أوكل له حل الأزمة.
لذا أنا لم اتنازل عن أي شيء، وأهم مكسب أنني لم ابتلع إهانتي في صمت، ودافعت عن نفسي بإصرار دون أن أسيء لأحد، وأثبت أنني لست واهمة حالمة، وإنما أنا اسعى للاتساق مع نفسي والمدافعة عما أؤمن به، وأيضا كسبت الكثير من الأصدقاء وطاقة الحب الهائلة والدعم الكامل من أهلي وأصدقائي ومن كل الناس التي قالت لي اثبتي على موقفك.. كل هذا طوق غال من الامتنان، سيظل حول عنقي طيلة حياتي، واعتز به بشدة.
أيضا كل القصص الملهمة التي وصلتني، وقد تجعلني يوما ما اسعى لمبادرة لحماية قانونية ضد فكرة التمييز العنصري أو التحرش اللفظي في بيئة العمل.
اتمنى ألا اواجه مشكلات في مكان عملي.. تصيد أخطاء أو اضطهاد مادي أو عملي أو حتى بيئة عمل متوترة.. هذا هو التحدي اليومي الذي عليّ مواجهته، لكن الآن.. أستطيع أن أعود لحياتي الهادئة.. واقابل أصدقائي، وأستكمل التجهيز لمعرضي القادم.. استكمل كتابة مجموعتي القصصية الأولى.. استكمل البحث عن منحة لدراسة الدكتوراة في شغفي الأول \”النحت\”، وارجع لمزيكتي وورقي وحياتي الهادية اللي بحبها.