عبير سليمان تكتب: أسرة صغيرة سعيدة

 

اعترف أن ما كانت أمي تردده في طفولتي قد أربك حياتي تماما، ولو لفترة.

كانت المرأة الريفية المتمدينة، تجلس مع جاراتها وقريباتها وصديقاتها، تحكي عن غربتها المحببة في تلك الدولة العربية، حيث كانت تعيش هي وأسرتها الصغيرة فيما سبق. تحكي عن منزل واسع يطل على الجبل، به حديقة غناء، يقطف الأب صباح كل يوم زهرتين، ويقدمهما لابنتيه اللتين كانتا تؤكدان حكايات الأم بالحديث عن أشياء غير مألوفة، مثل الموز أبو نمرة والتفاح الأمريكاني، وصوت فرقعات أبوفروة فوق الدفاية، وحلوى \”المارشملو\”، ودمى تقترب من حجم الأطفال، في شكل فتاة شقراء لإحداهما و\”برونيت\” للأخرى.. تحكي الأم عن أسرتها الصغيرة السعيدة وتتباهى بأنها تتبع تعليمات الدولة وتحدد النسل.

رغم \”اللولب\” حملت أمى.

لم تنقطع حكايا الأم عن المدينة الجبلية والورود و… و.. و.. وعن الوصفات الشعبية التي قررت بها التخلص من الحمل غير المرغوب به، والذي أتى ليهدد سعادة أسرتها الصغيرة.. تحكي بمفردات تحاول التنصل من أصولها الريفية، كيف أكلت \”العلقم\”، وشربت \”مياه غازية بعد غليها\”، وتدحرجت على الأرض.. لم تكن أعواد الجريد وحدها هي كل ما غرزته برحمها، بل العديد من الأعشاب والنباتات والوصفات الشعبية – علي حد قولها – عملت \”الاللي\” كي تتخلص من الحمل.

تشبثت برحمها وأتيت إلى الحياة كي أناطحها أياما وترازيني أعواما.

تسلم الأم بالأمر الواقع وتقبل بطفلتها الصغيرة التي هزت موازين الأسرة السعيدة التي لم تعد صغيرة بعد ذلك الحين.

حضرتُ إلى الوجود هشة وضئيلة كما وصفني الجميع.. رفضت بشدة أن ارضع من ثدي أمى، وكأنني كنت أرد إليها الإحساس ذاته بالرفض.

قدمت الأسرة التي لم تعد صغيرة إلى مصر في إجازة صيفية لزيارة الأهل والأصدقاء. وفي هذه الأثناء أصدر القذافي – عفوا لم أذكر من قبل أن الأسرة السعيدة كانت تعيش في ليبيا- قرارا بتجميد العلاقات الديبلوماسية مع مصر، وتحويل جبهة الصمود والتصدي \”جبهة عربية ضد المخططات الإسرائيلية في المنطقة آنذاك\” إلى كيان سياسي يهدف لملاحقة مصر وعزلها عن العالم العربي، ردا على توقيع السادات معاهدة كامب ديفيد واعتبارها عملية استسلام من قبل النظام المصري للعدو الصهيوني، وضربة للتضامن العربي والنضال الفلسطيني. فاتخذ القذافي إجراءاته الحمائية ومنع وفود أي مصريين جدد إلى الجمهورية العربية الليبية، مؤكدا عدم التعرض للعمالة المصرية القائمة في ليبيا. وجدير بالذكر هنا أن الرضيعة لم تكن مثبتة على جواز سفر أي من والديها عند قدومهما إلى مصر، ولن يمكنها العودة إلى المنزل الجبلي ذي الزهور الغناءة، فهي مصرية وافدة تشكل تهديدا على الأمن العربي.

أصيبت الرضيعة بحساسية جلدية جراء تغيير الأجواء – ستلازمها حتى تغادر هذا العالم-  داروا بها على الحميات وأصبحت حياتها مهددة.. تحكي الأم – باكية- أنها اضطرت لترك طفلتها في منزل والدتها، وعادت إلى المدينة الجبلية من أجل مدارس الأختين الأكبر، \”فازدهار الجماعة بني في الأساس على حساب الأفراد ـ منطقي طبعا\”.

رحلت الأسرة الصغيرة السعيدة الي المدينة الجبلية وتُركت الرضيعة ذات الحساسية الجلدية في حضن الجدة.

في عصر أكثر استقرارا، خاصة على الصعيد الدولي، عادت الأسرة بشكل نهائي إلى أرض الوطن، بعد أن رجعت المياه إلى مجاريها بين ليببا ومصر في عهد حسني مبارك. وطالب الوالدان باسترداد طفلتهما.

تركتُ الكُتاب. وتركتُ – دون إرادتي ـ المنزل الريفي البسيط الذي كنت اعشق الاستلقاء في فنائه الدائري في حضن الجدة ساعة المغربية، وانتقلت للعيش في شقة أسمنتية، داخل عمارة كبيرة في شارع ضيق بمدينة صناعية.. منزل غريب، شمسه ضنينة بأشعتها، إلا القليل الذي كان يدخل من شباك غرفة نوم والدي في حزمة ضيقة تعبر سريرهما قبيل آذان العصر، كنت بمجرد عودتي من المدرسة  اتمدد على هذا السرير، أرقب الكائنات الدقيقة التي تسبح في حزمة الضوء.. أسرح بعيدا عن هذا المنزل الذي لم أشعر يوما بانتمائي إليه.. بشر لا أعرفهم، وهم بالمثل لا يعرفوننى.. كنت اتحمل الشتاء الدراسي في هذا المنزل، وأحلم في كل يوم بالإجازة الصيفية التي سأقضيها في منزل الجدة.

اعترف أن ما كانت أختي الكبرى تردده سرا في طفولتي، قد أربك حياتي تماما \”ولو لفترة\”.. قبل أن تحكي أي شىء، حلفتني على المصحف ألا أخبر أحدا بما ستقوله. وأخيرا تشجعت وأخبرتني أنني لست أختها، \”أنت لقيطة”.

لم افهم معنى الكلمة، ولكن أداءها قد نقل إليّ معنى غير محبب للكلمة.. عقلي الصغير أخبرني أنني ربما أكون مصابة بمرض ما، وحتما أنا لست أختهان وبالتالي أنا لست ابنة هذه الأسرة، وهذا يفسر كل شىء!

تأثرت في صمت، ولكن (أختي) لم يرضها جهلي، فأوضحت أن (أمي) ذات مرة، ذهبت إلى السوق كشأنها اليومى، وعادت وهي تحمل الخضروات والفواكه وطفلة رضيعة في يدها، وأخبرتهم أنها وجدت هذه الطفلة أمام باب الجامع.

عندما أزور قرية جدتي الآن يقابلني الجميع بمحبة صادقة وأحضان وابتسامات وترحيب لا ينتهي.. يخبرني كل من أقابله – وأنا لا اتعرف علي أيٍ منهم – أنني تربيت في منزله/ منزلها، يحكي الجميع أنهم كانوا يرافقونني في الحميات وأنهم كانوا ولازالوا يعشقون ابتسامتى.. يبدو أنني كنت أسخر من العالم بابتسامة واسعة، عرضا كانت جاذبة لحب الناس. ربما أحبوني لضآلتي وربما لمرضي وربما لأسباب تخصهم، وفي الأغلب كانت مشاعرهم – التي لا أشك في صدقها- مجرد صعبانيات على طفلة تركت خلف أسرة صغيرة سعيدة.

أقلب في محتويات دولاب والدي.. تصادفني أشرطة كاسيت كتب عليها اسمى، أجري إلى  المسجل والأفكار تطوف بذهني كطاحونة هواء.. اتخيل أن هذه الشرائط تحوي سرا خطيرا \”يحمل اسمى\”، ربما صدقت أختي الكبرى: \”يا رب أطلع لقيطة”.

أضع الشريط في المسجل وأضغط زر التشغيل، اسمع صوت طفلة صغيرة بالكاد تنطق الأحرف، يحثها الخال والجدة والخالة كي تنطق بالكلمات المحدودة التي تعلمتها ليسمعها والديها!

لا تنطق الطفلة الصغيرة بشىء علي الإطلاق. فقط تنادي الجدة \”ماما\” والخال \”بابا\”.. ترفض الحديث، فتتحدث الجدة عما تعلمته الصغيرة وكيف أن الكل يعشقها، لم أستطع استكمال أول شريط، شعرت بحزن مفاجىء وحنين لن ينتهي إلى حضن جدتي التي ماتت منذ سنوات.

أغلقت الكاسيت.. جمعت الشرائط ووضعتها في علبة الحذاء الكرتونية، ودفنتها مرة أخري بين متعلقات والدي.

لست حالة استثنائية أو نادرة.. أسمع العديد من الحكايات المشابهة لأبناء من سعوا إلى بلاد النفط كي يأمنون الحياة المادية لأبنائهم.. أباء وأمهات تركوا أبنائهم في منازل أقارب تحولوا بالوقت إلى آباء وأمهات فعليين لأرواح صغيرة لا يعنيها إلا للحب والاهتمام. بمرور الزمن وبفعل الغياب أصبح الآباء والأمهات الأصليين مجرد غرباء. عادوا محملين بالمال، منهم من بنى بيتا، ومنهم من ادخر نقوده في البنوك لتفقد قيمتها مع مرور الزمنن ومنهم من أخذ على قفاه ووضع تحويشة العمر في الريان.. منهم من خسر أمواله ومنهم من ربح الكثير، وكلا الطرفان خسرا أبناءهما بطريقة أو بأخرى.. هؤلاء الأباء هم مجرد ضحايا أنظمة سياسية واقتصادية رسمت أحلامهم ودفعتهم إلى السفر بحثا عن المال اللازم لتكوين المزيد من الأسر الصغيرة السعيدة.

محبتي إلى والدي العزيز ووالدتي الغالية، بالرغم من أنني – يوما – لم أنتم إلى منزلكما الأسمنتي، إلا أنني ومع تقدم العمر، اخترت حبكما، لأنني على يقين أنكما لم تقصدا سوى حمايتى.

أولادكم ليسوا لكم

أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها

بكم يأتون إلى العالم ولكن ليس منكم

ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكا لكم

أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم

ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم

بذور أفكاركم لأن لهم أفكارا خاصة بهم

وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادكم

ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم

فهي تقطن في مسكن الغد

الذي لا تستطيعون أن تزوروه حتى ولا في أحلامكم

جبران خليل جبران

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top