عبد الرحيم طايع يكتب: جنازة الشيخ العريان.. الدوجماطيقية الغالبة والحداثة الغاربة!

توفي، منذ أيام قلائل، رجل من الذين يصفهم الدهماء بالمبروكين، واحتفل الأهالي في مشهد جنازته احتفالا صاخبا حيث يقيم بالجنوب (نجع دويح بالبحري قامولا من قرى مركز نقادة التابع لمحافظة قنا). دفوف ومزامير وسعف نخيل مرفوع وزغاريد متواصلة عالية تطل بها النساء من الشبابيك وحلوى يجري قذفها على الناس وأعلام خضراء وسوداء تحمل الشهادتين، بينما النعش يشق طريقه إلى المقبرة، وعدّ الرجل طبعا، واسمه العريان ولقبه الشيخ، وليا من أولياء الله الصالحين!
المرويات عن الرجل، يغفر الله له ويرحمه، أنه كان يقيم في حفرة، قدر المحيطون به عمقها بمترين، حفرها بيديه منذ كان شابا يافعا في العشرين (مات عن عمر يقارب الخامسة والسبعين عاما فيما يقال)، وأنه كان عاريا من الثياب على الدوام في الحر والبرد إلا من غطاء يستر عورته، لا يبالي بما يجري فوق الأرض، ولا يعمل ولا يتكسب، ولا يصوم ولا يصلي، ويأكل ويشرب من عطاء الطيبين وجودهم (قيل إنه كثيرا ما كان يأخذ السمك من ترعة مجاورة لحفرته ويفضل أكله نيئا) وكان يرفض الذهاب للأطباء لو بدا عليه تعب وجره أحدهم إلى عيادة أو مستوصف، ومع ذلك فكراماته ذائعة مشهورة في الخلق، وكل الناس يتبركون به ويدعون ربهم أن يحقق أحلامهم لأجل خاطره.
حالة \”الشيخ العريان\” في الحقيقة حالة ذائعة خصوصا في المجتمعات الأقل تعليما- المجتمعات الفقيرة التي يقاسي أهلها ويلات البطالة وانعدام الرعاية الحكومية على كافة المستويات واضمحلال الخدمة الثقافية فضلا عن تفشي القذارة وأذاها والإهمال الصحي المهلك، ويمكن الجزم بأن الجو عموما متخلف حول إنسانها ولا أقول إن الإنسان هناك هو المتخلف!
ينتسب ما قاله الناس في \”الشيخ العريان\”، والبادي أنه كان مجذوبا، إلى التصوف. أو على الصحيح إلى مفهوم الناس، بالمناطق البعيدة المحرومة، عن التصوف.
المصريون، في العادة، يطلقون على \”الشخص المجهول الطيب المنكفئ على نفسه\”: شيخا.
ولو صادف وكان الشخص المقصود مأواه الشارع وكان بلا هوية ولا مهنة ولا أهل ولا أصدقاء ولا قراءة ولا كتابة ولا حتى صوت واضح يميزه الخلق به، بالإضافة إلى امتلاكه سمتا لافتا محيرا، كالعريان الذي نخصه بالكلام؛ كانت مشيخته \”دينية صوفية\” لا ريب فيها، وليست مجرد لفظ دال على السذاجة الشديدة والفقر البين الداعي إلى العطف والشفقة والوداعة والمسالمة!
تتعاظم الأسطورة، كما ألمعنا من قبل، حين يكون موقع الشخص \”جوانيا\” هامشيا ليس وثيق الصلة بالمدينة وليس من المدنية في شيء!
غالبية الأهالي في أمثال تلك المناطق \”دوجماطيقيون\”. والدوجماطيقية، كما يقول الأستاذ محمد عثمان الخشت في مقاله المهم العقل المغلق أو الدوغماطيقية المنشور بملتقى ابن خلدون الإلكتروني للعلوم والفلسفة والأدب، ليست تيارا فلسفيا أو دينيا، وإنما هي، في أكثر معانيها انتشارا، سمة تتسم بها كل فرقة أو مذهب أو فلسفة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل شامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئا من الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات لا يقبل النقاش ولا التغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية، فهي مقدسة ومنزهة عن أي نقد، على الرغم من أن هذه المعتقدات والآراء غير مبرهن عليها ببراهين قاطعة من العقل أو الواقع، وعلى الرغم من عدم التمهيد لهذه المعتقدات بفحص نقدي تحليلي للأسس التي تقوم عليها، ودون بحث في حدود وقدرات العقل المعرفية، فضلا عن عدم تمحيص الطرق التي توصل إلى المعرفة الصحيحة. انتهى.
ولو أخذنا في الاعتبار هذا التعريف البسيط الجامع لمعنى الدوجماطيقية؛ فنحن أمام حالة اعتقادية كاملة لا تقبل، فيما تؤمن به وتقطع بيقينيته، نقاشا ولا جدلا \”الشيخ العريان ولي من أولياء الله الصالحين\”. نحن فعليا أمام الحالة الكاملة ل \”العقل المغلق\” غير المفكر وغير المصدق للفكرة الأخرى المقابلة!
وأما الحداثة، وأحد مفاهيمها البسيطة الواضحة أنها التعامل مع الواقع بالعلم والعقل والتكنولولجيا، فهذا المفهوم البسيط الواضح نفسه يشير إلى ضدية هؤلاء العوام معها. ففي التعاطي مع قصة \”العريان\” من جميع جوانبها: لا يبرز علم ولا يظهر عقل ولا يلوح أثر للتكنولوجيا!
الدوجماطيقية غالبة والحداثة غاربة في تجليات القصة- قصة الرجل المنعزل الذي صار، بالأخيلة الشعبية والأوهام المتوارثة الضاغطة، وليا صالحا، سيقام له مقام يزار أغلب الظن!
ههنا أود أن أنبه إلى كوني لا أشكك في الرجل من جهة الدين؛ فالله تعالى أدرى بحاله، لكنني بالتأكيد ضد رفعه إلى المنزلة التي رفعه الناس إليها، والمقعد المبارك الذي أسندوا ظهره عليه بلا وجه حق. كل ما يعنيني في الحقيقة أن أشعل بطاريتي باتجاه الخطر الذي استشعر وجوده من الحفاوة البالغة بـ \”الكائن غير المفيد\” على حساب مجموعة القيم التي يجب اعتمادها في المنحى التفاعلي بين البشر والواقع.
إن الكسل التام عن العمل والانصراف الكلي إلى الغيبيات؛ مما يمكن أن يجنيه مجتمع يريد أن يتقدم ويزدهر لو قر في نفسه أن حقيقة الحقائق هي في ترك الشباب للعمل (سبق وأشرت إلى كون الرجل ترك الدنيا مبكرا) وفي غض الطرف عن الأرض \”التي فيها معاشنا\” مع التوجه القلبي (الكلي) إلى السماء بالطلب والحاجات!
ما الحل الآن؟
– أن تدرك الدولة الخطر، ممثلة في مؤسستها التعليمية أولا، فتقفز بالتلاميذ والطلاب قفزة كبرى نحو \”التعليم العلمي التكنولوجي\”، وأن تتخفف المناهج الدراسية في مقام الوجدانيات، لا تهمله بالكلية طبعا، لكن تضاعف ما تقدمه في إطار المنطق!
– أن يعرف رجال الدين كم قصروا في حق مجتمعاتهم، وكم قدموا الغيوم وما وراءها على الأرض وما فيها ولمثل ذلك كرس خطابهم المتكرر الملح البائس؛ فخلقوا أمواتا متواكلين، وقد كان جديرا بهم أن ينقحوا مناهج الدين وينقوها وينظفوا كلماتهم من الدجل والخرافات، وينشروا في الناس أن السعي على النفس والزوجة والعيال خير من النوم تماما كالصلاة، وأن النشطاء المنتجين مفضلون على الخاملين العابدين، وأن من علا وبرز خير ممن سفل وتوارى في معظم الأحوال!
– أن يقوم الإعلام بدوره التنويري التوعوي وأن يتصدى تصديا نابها واسعا للظواهر المعطلة المحبطة
المخيبة لآمال البشريين في الحياة التي يحيونها، وأن تفهم النخب المثقفة أن التاريخ لن يرحم تخاذلها، وأنها تحت السكين ما لم تضلع بمهامها الثقال، بعيدا عن تحصيل المكاسب الفارغة وبذكاء شديد وهمة عالية، لأنها المنوطة بمثل ذلك بصورة مباشرة!
– فيما يخص الجماعة الإنسانية، الواجب على الأفراد أن يدربوا أنفسهم على الفصل بين ما هو يقين ذاتي (يدخل في باب القناعات الشخصية والثوابت المعرفية الخاصة) وما يصح أن يكون للجميع أو يفرض على الجميع أو تتم دعوة الجميع للالتزام به، والمهم هنا ألا يتسلل إلى هؤلاء الأفراد شعور بالتناقض والازدواجية وما إلى ذلك!
– أن يحرص \”الخطاب الرئاسي\” نفسه، باعتباره الخطاب الأهم في مثل دولتنا النامية، على أن يشيع في الجماهير، بثقة وتواضع، جوا يمنحهم أمانا في حياتهم المادية يعادل ما يجدونه في خلواتهم الروحية وترددهم على دور العبادة؛ فيقويهم ولا يضعفهم ويحضهم على التفكير والتدبير لا الخنوع ولا الاستسلام، وربما الشرط أن يتم هذه برغبة قيادية صادقة في التغيير والتطوير وبلا استغلال رخيص من الموالين للنظام الحاكم!
– أن يتفهم الساسة والمتحكمون في مصائر العباد والعلماء على اختلاف تخصصاتهم والناس كلهم أجمعون أن صلاح الأمر كله في الحرية بمعناها الحميم الأكثر شمولية؛ فلا يمكننا أن نجتهد ونجد في صنع \”حالة اجتماعية أرفع\” ثم نضمن نجاح ما صنعت أفكارنا وأيدينا، بمنأى عن الحركة الحرة الشجاعة! .
أخيرا، قلت، وأكرر القول بلا سأم، لا أطعن في الرجل الميت، ولا أنتقص من قدره (عوضه الله عن عيشته المأساوية عوض المبتلين الصابرين وستره عنده الستر المبين)، لكنني بالمثل لا أضعه حيث يوضع الصالحون الأكابر ولا أبني له مقاما يلتمس الناس على خشبه الرضا والنفحات، ولا أشارك العوام الاحتفاء بذكره والارتباط بسيرته، بل أسابق إلى بيان ما أتصوره حقا وأظنه صوابا وأحب أن يتلقاه الناس بجدية واهتمام وأريحية أيضا، وألا يروه كلاما متجنيا ليس بالموضوعي؛ ومن ثم يسارعون إلى اتهامي بالكفر، والعياذ بالله، أو يقدحون في نيتي ويذمون أخلاقي. ولعل من النافع ههنا أن أذكر أن الرجل ينتمي إلى محافظتي التي نشأت بها، وكبرت فيها، واعتززت دائما بأنني من أبنائها، وأعرف من جملة أحوالها ما أعرفة من جملة أحوالي، ولو كنت علمت من قصته، كما وردت وشاهدتها على الشاشات وقرأتها في أكثر من جريدة وموقع، ما يصادف نفعا عاما أو خيرا عميما؛ لكنت أول مرحب بها وأكبر مروج لعطورها، انتصارا للشمس التي أخرجها الله في ليل المحل الذي أنا من مواليده وفي عداد أصحابه. لكن هيهات هيهات، قال العارفون الراسخون الصادقون \”إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء وظاهره يخالف الشريعة فأنكروا عليه\” وقد تواتر أن الرجل كان لا يصلي ولا يصوم ولا يعمل وبالبداهة كانت حياته تعتمد على صدقات الآخرين. أخيرا، إن الإنسان الذي اختار الانعرال والهدوء كان عجيبا أن يرحل وسط الضجيج والصخب، ولم يكن من اللائق أن يعتقد الناس فيه كل هذا الاعتقاد وينشغلوا به كل هذا الانشغال حتى لو صفت دواخلهم وحسنت ظنونهم؛ بل حفرته التي أخفته وحوت سره وجهره طوال الأعوام؛ كان معناها أولى به بعد الممات أيضا. قال القرآن \”ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا\”. ومهما يكن المثل القرآني بعيدا فهو قريب. والله تعالى أعلى وأعلم!

للتواصل مع الكاتب:
abdelraheemtaya67@yahoo.com

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top