في عام 2005، كنت واحدا من عشرين شابا حديثي التخرج، وقع عليهم الاختيار للعمل في مدرسة ثانوي خاصة في منطقة العباسية.. كنا في انتظار الاجتماع بصاحب المدرسة للتعارف والتعاقد.
لم أكن احتاج كثيرا من الذكاء لإدراك أن كل من في الغرفة يخوضون تجربة العمل في هذا المجال للمرة الأولى.
الأجواء المحيطة بالاجتماع، لم تكن مشجعة كثيرا على فتح حوارات جانبية، حيث تم حشرنا في أحد الفصول على مقاعد أسمنتية، قيل لنا إن صاحب المدرسة صنعها – خصيصا- من الأسمنت المسلح، لضمان استمرارها لفترة طويلة.
عم فتح الله البواب ـ كما عرف نفسه لنا ـ كان الأكثر نفوذا بين جميع المتواجدين معنا من إدارة المدرسة، بما فيهم ناظر المدرسة الذي اختصه البواب بكرسي خشبي مماثل للكرسي الذي يجلس عليه، بينما حرص عدد من قدامى المعلمين في المدرسة على تملق فتح الله بين الآن والآخر بسيجارة أو ساندويتش قدمته له معلمة الرياضيات الأولى في المدرسة!
صاحب المدرسة الذي قدم نفسه لنا بصفته خبير قانوني، كان في منتصف الثلاثينيات من عمره، وحرص على أن يكون ودودا لأقصى حد، وهو يعرفنا بنظام العمل في المدرسة، وحافظ على ابتسامة واسعة، وهو يقول لنا إن الراتب الشهري سيكون 180 جنيها، مؤكدا أن أي اتفاق على الدروس الخصوصية أو المجموعات، يجب أن يتم من خلال المدرسة، وأن مخالفة ذلك معناه الفصل فورا.
ساعة كاملة من الحديث النرجسي عن تاريخ المدرسة العريق، والتي يمتد تاريخ إنشائها إلى ما يقرب من الخمسين عاما، أنهاه الرجل بجملة واحدة: \”مش مهم العيال تتعلم.. المهم عم فتح الله ما يدخلش الفصل لإعادة الانضباط \”!
لم نستغرق كثيرا لندرك أهمية تلك الجملة التي أثارت سخرية البعض واندهاش الجميع، حيث انتهى الأسبوع الدراسي الأول باستقالة 8 معلمين وإصابة معلم الفرنساوي الذي أخرجه فتح الله بصعوبة شديدة من تحت أيدي الطلاب.
القاعدة الأولى للمعلم في تلك المدرسة، هي حماية نفسك من عنف الطلاب بأن تذبح لهم القطة، وتظهر لهم أنك أكثر منهم بلطجة وعنفا، بشرط أن تتحمل تبعات ذلك بعد نهاية اليوم الدراسي، وتكون جاهزا لمواجهة مسلحة في بعض الأحيان!
والبديل الوحيد لذلك أن تظهر ضعفك وتتغاضى عن كل ما يحدث داخل الفصل حتى لو وصل الأمر إلى اقتتال مسلح بين الطلاب، أو نالك نصيبا من الإهانات والمقالب.
نبوت فتح الله القادم من روايات نجيب محفوظ، هو الآداة الوحيدة القادرة على فرض الانضباط في طابور الصباح.. يعاونه في ذلك مجموعة من قدامى الطلبة \”المعتقين\”، والذين يختصهم فتح الله بين الحين والآخر بسيجارة وامتيازات أخرى، من بينها الخروج والدخول للمدرسة في أي وقت، لزوم السيطرة والولاء!
فصل دراسي واحد نجحت في إكماله بصعوبة في هذه المدرسةن بمجموعة من الحيل البهلونية التي أكسبتني خبرة مروضي السيرك.. عاصرت خلالها عشرات المعلمين الذين وضعهم حظهم العاثر داخل تلك التجربة في بداية حياتهم المهنية.. كنت أظن أن ما يحدث في تلك المدرسة استثناء، لكني تأكدت أنها قاعدة منتشرة في معظم مدارسنا الخاصة والحكومية على مدى 10 أعوام من الرصد الدقيق لعدد كبير من تلك المدارس.. صحيح أن الشغب والعنف في المدارس الإعدادية والابتدائية أقل حدة، لكن المشكلة تظل قائمة بحكم عدم اهتمام الدولة والقائمين عليها بالجانب التربوي في إعداد المعلم وعدم تأهيله للعمل وتدريبه بشكل علمي يتواكب مع التطورات الاجتماعية.
ظاهرة العنف داخل المدارس، لم تعد قاصرة على عنف المدرسين تجاه الطلبة – كما كنا نسمع في عقود ماضية – ولم تعد مواجهتها بمنع الضرب في المدارس كافيا.
الآن.. العنف أخذ أبعادا جديدة، حيث أصبح من المعتاد سماع أخبار من نوعية: طالب يقتل أستاذه، أو ولي أمر يتعدى على معلمي ابنه، أو معلمون يتقاتلون – فيما بينهم – على مرأى ومسمع من الطلاب، مما حول المدارس في كثير من الأحيان إلى ساحات اقتتال حقيقية.
وبحسب آخر رصد لحالات العنف المقيدة في دفاتر شكاوى وزارة التعليم العام الماضي، فقد تم رصد أكثر من 150 شكوى جماعية في محافظة القاهرة – وحدها- من بينها شكاوى تتهم معلمين بإصابة التلاميذ بعاهات، أو تتهم معلمين بضرب زملائهم، أو التحرش بالطالبات، أو اعتداء أولياء أمور على معلمين، بما يعني أن الطالب ليس هو الضحية دائما، وإنما الجميع ضحية تغيرات اجتماعية واهتزاز واضح في منظومة القيم.
المعلم لم يعد يقوم بواجبه كما يجب، بسبب شعوره الدائم بالظلم وعدم الحصول على مقابل مادي يكفل له حياة معقولة، وعدم تدريبه على التعامل التربوي مع التلاميذ، مما أدى في النهاية إلى اهتزاز صورته في عيون التلاميذ وأولياء الأمور، وجعل المدرسة شبيهة بغابة.. الأقوى والأكثر بلطجة فيها، هو من يفرض كلمته في النهاية.
مشهد الغابة كان أكثر وضوحا عندما ألقتني الظروف – الأسبوع الماضي- في مدرسة شهداء بورسعيد بالسيدة زينب لمتابعة آثار حادثة مقتل الطفل إسلام شريف بعصا أستاذه.. كانت المدرسة خالية من التلاميذ، بينما تجمع المعلمين في ركن من حوش المدرسة في انتظار عقاب ولي أمر الطالب، الذي هدد بتأديب قاتلي ابنه، والذي أعلنه صراحة ونفذها بكل جرأة: \”مفيييييش مدرسة غير لما ارجع حق ابني\”.