عبده البرماوي يكتب: لماذا يغش طلابنا؟ عن التعليم والأخلاق وبؤس تصورنا عن المستقبل

نقل موقع \”العربية\” عن رئيس الجمهورية توجيهه لوزير التعليم \”بإدراج الأخلاق والمبادئ والمثل العليا كمحددات لتقييم الطلاب\”. قبلها بأيام وخلال امتحانات الثانوية العامة كان حديث الأخلاق هو الأكثر صخبا في مواجهة الفضيحة التي تفجرت بتسريب امتحانات الثانوية العامة. ويبدو أن قبولا واسعا لحديث الأخلاق بوصفه العلاج الناجع الوحيد للغش يسود، بدءً من السيسي ووزيره للتعليم وقطاع عريض من المجتمع.

يدفعنا هذا لسوق سؤال نلمح حروفه مختنقة في حلق بناتنا وأبنائنا الطلاب، وهو سؤال أراه الأكثر جذرية وأحسب أن علينا طرحه دون وجل: لماذا ينتهي التعليم لدينا بمحنة نخفف من وقع اسمها ونسميها \”امتحانا\”؟ ولماذا نعتبرها السند الموضوعي لتقييم كفاءة الطالب والاثبات لتمام تحصيله للمعرفة والمهارة وغيرها من مخرجات التعلم عبر عام دراسي كامل؟ لماذا تحضر الأخلاق ليس وحسب كمكمل للتقييم بل كحل للمعضلات السلوكية التي تكتنف نظامنا التعليمي جميعها؟

طالب أم ضحية؟

لماذا إذا نفزع من ظواهر الغش الجماعي، ولم نفكر للحظة في قيمة فرض محنة ضاغطة على الطالب في وقت محدود للغاية، ونلزمه فيها بإثبات أنه أوفى مهمة تفرغ لها عبر ثماني أو تسعة أشهر؟ أهي لحظة مخاض عسر حقيقية لحمل معرفي طويل سيلد عقلا جبارا، أم وهم بالغ التخلف تعزز وجوده دوائر مصلحية ويبقي عليه سوء فكر ونظر؟ وهل حقا يمكن الارتكان لهذه المحنة الضاغطة لتقييم نواتج تعلم حقيقية وفاعلة لطلابنا وقياس تطور معارفهم ومهاراتهم واتجاهاتهم؟ وهل نضمن ترجمتها لمهارات حياة وسلوكيات وقيم ومُثل عليا؟ أهي محبتنا الموروثة لدراما الوجود وأساطير البطل الواقف بين الموت والحياة، تفضي بنا لتفضيل نهاية ملحمية للعملية التعليمية ولحظة مأساوية يراوح الطالب/الضحية فيها بين إكرام ومهانة؟

كلها أسئلة ظلت عالقة عبر عقود، تعاقب عليها من يفترض مسئوليتهم عن الإجابة عنها وكان منهم فقط المراوغة والمعالجات الدعائية وقصيرة النظر للأسف. ربما هذه الحالة المأساوية هي ما دفع بأحد المواطنين السيناوية لاستجداء الرئيس وحثه على \”مراعاة أبناء سيناء في الدرجات\”، مقترحا زيادة درجات الطلاب من أبناء سيناء 5%، ليرد الرئيس في التو بأنهم سيدرسون هذه الزيادة! هكذا قارب الوعي لدينا بين منحة مالية تمنحها الحكومة وبين منح درجات تخرج عن أصل تقييم الطالب وتقدير قدراته فيما لا يعرف فوارق جغرافية.

ورغم مؤتمرات عديدة لتطويرها وقوانين ابتغت تعديلها، وسنوات أهدرت فيما يسمى بالمشروع القومي للتعليم، وبرامج وخطط للإصلاح والتحسين والتطوير أنفقت عليها الملايين، ظل الحال على ما هو عليه. ولم يزل يهل علينا موسم التوتر والصخب والفزع العام الذي تشخص فيه الأبصار إلى وزارة التعليم، ويقف الجميع محبوسي الأنفاس متوجسين من لحظة انفجار المشهد المعنونة بكلمة \”غش\”. وحين تقع الواقعة الدراماتيكية نهرع لوصف حوادث الغش بنائبة تفوق في هولها الزلازل والبراكين والثورات والثورات المضادة، ثم نهدأ لنبي مجد التنسيق. الغش لا شك أنه آفة اجتماعية، ولا جدال في أن تورط قطاع عريض من طلابنا فيه واستفحال ظواهره لمثل هذا المستوى الذي يتبدى اليوم هو مؤشر لا تخطؤه عين مراقب حصيف على خلل أخلاقي، وانحدار اجتماعي، وكذلك وهذا هو الأهم يؤشر على انحطاط نظم وطرق التربية التي بيتبناها مجتمعنا.

دراما الغش وتيه الحلول

في ظني الأهم من هذا الحكم الأخلاقي الاستعراضي وميلنا لإبراء الذمة، هو أن نجد في الإجابة عن كيفية اجتثاث هذه الآفة من جذورها. بعد عقود من استمرار الظاهرة واستفحالها، حان وقت الجراحة، فلم يعد يكفي ما نفعله كل عام من إفراغ الغضب عبر وصم قلة من طلاب واثنين أو ثلاثة من مسئولي التعليم المحليين بأنهم غشاشون مجرمون. تلك الدراما الصاخبة والقصيرة دوما تنتهي بعبارات انشائية بضرورة تعزيز الأخلاق في مدارسنا، سرعان ما ننساها في صخب المرحلة الثانية من موسم الفزع بحلول نتائج مكتب التنسيق. اكتفائنا بالحكم الأخلاقي على الغش هو بذاته جزء من مشكلة تصورنا عن تطوير التعليم في مصر، فالمشكلة لا تكمن في ضعف وسائل المراقبة المانعة لظواهر \”الغش الفردي والجماعي\”، ولا في مظاهر \”التسيب\” المدرسي، ولا حالات \”عنف الطلاب\” و\”انفلاتات المراقبين\”، أو غير ذلك مما تحفل به معالجات الصحف وحواديت الفضائيات. لا يعارض المرء القول بضرورة التحلي بالخلق وحسن السلوك، باعتبار ذلك مخرج أساسي لعملية التربية، لكن أي أخلاق نريدها في منظومة هي ذاتها لا تتصف بالأخلاق ولا بالعدل ولا بالحرية. وإن كنا قد اكتفينا من هذا الهراء السنوي الصاخب الذي \”لا يودي ولا يجيب\” علينا أن نختار بداية مختلفة تعنى بفحص جذور مشكلة الثانوية العامة، بإرادة مجتمعية حقيقية، فلا معنى للحديث عن الغش وعن تردي مستوى التعليم دون الوقوف عند أدوار أساسية لزارعي بذرة هذه الممارسة ورعاتها ومعاقلهم داخل المنظومة التي تنتج كل هذا.. لابد لنا من البحث عن إجابة مسؤولة توقف دمار منظومة التعليم لدينا.

بداية الحل في الاعتراف بأن بنية التعليم في العموم ومرحلتها الأهم لدينا \”الثانوية\” بالخصوص لا زالت قائمة على مجموعة من شروط غير موضوعية لتقييم الطلاب؛ شروط مجحفة تطبقها منظومة لإدارة التعليم هي بذاتها صاحبة مصلحة أساسية في استمرار الظلم الناتج عنها. سيرورة ديناميات التعلم والتعليم التي تفضي إلى لحظة \”المحنة\”، غايتها تعريض عقل الطلاب لظروف مربكة، لا يمكن لعاقل تصور جدوى تعقل من ورائها، ولا تصور بانطباق وصف الموضوعية على ما تطرحه في معرض تقييم قدرات الطالب.

ضرورات وظلم مُركب:

ويكمل هذا إدراك حقيقة أن الظلم في هذه المنظومة مركب؛ فلحظة المحنة، التي نود منها اختصار جهد تسعة أشهر تختلق بسبب هذا التأزيم \”ضرورات\” أخرى، أولها الاستعداد بطريقة استثنائية للامتحان. وهي مهمة يظهر فيها البطل/المدرس بوصفة متخصصا في \”تعليب المعرفة\” وإكساب مهارة \”صفها\” في ساعتين. دور يقلص مهمة المعلم من ميسر معين على المعرفة وقائد تربوي يقود عملية تشاركية مع طلابه في سبيل تحصيلها والتفاعل معها، إلى مجرد محرر ملخصات، ومبسط للمحتوى الدراسي في أقل عدد من جمل يمكن للطالب تذكرها. ولهذا صارت الغالبية في مجتمعنا تقيس كفاءة المعلم في ضوء هذه المهمة بحدها؛ فيوصف بالجيد إن أعد طالبه للحظة افراغ ما تذكره وسطره في صورة \”نموذجية\” في ورقة الإجابة.

وهكذا أيضا تصير النمذجة ضرورة تربوية ملحة، تترجم عمليا إلى ما يسمى \”نماذج الامتحانات\” التي توفرها الوزارة، وتتفرع عنها ضرورة أو \”سبوبة\” مربحة أخرى تسمى \”الإجابات النموذجية\” التي يوفرها الناشرون والمدرسون للطلاب.

الحفظ والاستظهار واستدعاء ملكات التذكر لا يصير ذخيرة الطالب الوحيدة في لحظة الامتحان/المحنة وحدها، بل يتحول لنمط عام في تعامله مع المعرفة. مع هذا الأسلوب في إدارة عمليات التعليم والتعلم يتحول عقل الطالب لعقل متعجل، فاقد لفعل التأمل في المعرفة، ومتخل تماما عن القدرة على ربط المعارف ببعضها، أو ترجمتها لمعنى في حياته، ويفتقد لذة السعي لاستكمالها والولع بسبر أغوارها. ويدرك المشتغلون في مجال التعليم أن المعرفة من هذا الصنف لا تحتاج لعمل منتظم من جهة الطالب طوال العام الدراسي، بل فقط عليه أن يكثف جهده في آخر أسابيع قبل المحنة، ويحول عقله لشريط كاسيت، أو وحدة ذاكرة محدودة الحجم. من تلك التي تسجل عليها أكتر من مرة وتمسح ما سجلته ليحل محله مقدار آخر من معارف جديدة محلها، وبدوره سرعان ما ينمحى ليفسح المساحة المحدودة لغيره وهكذا.

الأهل موروطون في سلسلة الضرورات هذه وهم محفزون لخلقها وتكريسها؛ فجل ما يتوخونه من ابنهم أو بنتهم هو \”خبطة مجموع\”. الخبطة هذه تفضي بنا إلى الضرورة الأخيرة والأخطر في منظومتنا البائسة ألا وهي \”مكتب التنسيق\” حيث تقديره للخبطة يضمن ولوجا لعالم \”كليات القمة\”.

التنسيق وأكذوبة الموضوعية

لا ينافس \”أكذوبة الموضوعية\” التي تغلف منطق الامتحانات في مصر إلا هذا الشيء المسمى بمكتب التنسيق وجائزته المسماة بكليات القمة. فقد ولد قناعات مدمرة لكل إمكانية للفرز الطبيعي والموضوعي للطلاب بحسب ميولهم ومهاراتهم واستعدادهم. أكذوبة العدالة الموضوعية التي تصدرها لنا وزارة التعليم تنكشف في تلك اللحظة التي يدرك طلابنا وهم في قاعات الجامعة أنها لا تخص إلا أمثالهم ممن يمرون بالتعليم العام، فيما أبناء الطبقة العليا مسارهم إلى الجامعة مضمون بوسائل أخرى، ويقدمه تقييم أفضل عبر الشهادات الأجنبية التي تعتمد طرقا للتقييم الدراسي بعيدة عن الامتحان وفق الطريقة المصري وبابها إلى مكتب التنسيق أيسر. مكتب التنسيق لا يسمع أصوات علماء التربية وأساتذة الجامعات تلعنه في كل عام، حين ينحشر في كلياتها طلاب لا هم مناسبون ولا مؤهلون ولا \”أغوتهم\” المعرفة التخصصية ومسارات الإعداد العملي التي تعد الطالب لها.

في ظل \”سلسلة الضرورات\” التي يخلقها نظامنا التعليمي، وطرق التقييم فيه، ينبت الغش كـ \”ضرورة\” مستترة، نبتا منطقيا لظاهرة فساد المنظومة المتمركزة حول \”الامتحان\”.

الغريب أن الطالب المتعجل، المغلوب على أمر مادة لا يستسيغها، هو ذاته من يطالع المعرفة من أبواب أخرى بعيدة عن المدرسة فيجدها ميسورة، وممتعة، خصوصا من الوسائل الإلكترونية، ومن المطالعة إن كان محبا للقراءة. تنهار هنا منظومة المدرسة، وما يسمى بالعملية التعليمية الرسمية، ويلفظها الطالب، ويكثف جهده \”للخلاص\” منها، بأي صورة، مدركا أن فسادها يعالج بألوان عدة من الفساد. هكذا حال أي منظومة، تحاول أن تخلق موازناتها، فتفسد بآفة هي من طينة ما فيها.

لهذا ليس مستغربا أن طرق التقييم التربوي المعتمدة لدينا التي بلغت مستوى من الرداءة وانعدام الفاعلية هي نفسها ما جعل نظامنا التعليمي مصنفا بين الأسوأ في العالم. ببساطة لأن العالم سبقنا بأن نفض هذه القناعات وحرر نظم المعرفة فيه من مثل هذا الفساد. فلم يعد يقبل أن يَجِدَّ الطالب عبر عام دراسي كامل ويكثف جهده للاستيعاب والتحصيل واظهار القدرة على استخدام المعرفة وتفعيلها في مهارات حياتية، ثم يقيم على هذا كله في ساعتين أو ثلاثة وفقط وبأسلوب افراغ المحفوظات. لم يعد العالم يرى أي ضرورة لمحن وقتية، ونفض التربويون باستثناء بيروقراطيتنا التعليمية التليدة عن عقولهم وهم أنها طريقة موضوعية.

تحرير المعلم

وما جاوزه العالم كذلك في مسألة التقييم التربوي ومشكلاتها هو هذا الميل المخاتل للمعالجة الأخلاقية (أو الأخلاقوية إن صح التعبير) لمشكلاته. لم يحتج لاستثمارات ضخمة في نظم المراقبة، ومعالجته لظاهرة الغش وانفلات مسالك الطلاب تأخذ بابا غير هذا الباب القمعي.

كذلك لم يعد المعلم عرضة لكل هذا الإذلال، بل تم تحريره من عوامل القهر، فالمربي على الحرية لابد وأن يكون هو نفسه حرا. لكن الحال لدينا أن المدرسين وحدهم ملامون ويعزز الإعلام هذا الضلال بما يسهم في إهدار الحلول. أولئك المنشغلون في تدبيج المقالات التي تكرس لومها للمدرسين، وذممهم الخربة، الممعنون في بكاء \”ميراث النبوة الضائع\” من يد أمثالهم ممن كادوا أن يكونوا رسلا، وفضلوا على رسالة المعرفة بيع المعلبات المعرفية التافهة يظلمون المعلم برسمه في الصورة النمطية البائسة التي رسمت لفئات أخرى من الموظفين العمومين، حيث نظرة شائعة لا ترى فيهم إلا كسالى مرتشين. لا أنكر أن المعلمين في غالبهم يشتغلون بالدروس الخصوصية، وأنها وجه من وجوه الفساد، إذ يرتبط فيه المعلم بعلاقة تعاقدية مع شخص يملك سلطة تقييمه، وبما يهدر معنى العدالة. لكننا لو اكتفينا بهذا الوصم الأخلاقي لأنسانا ذلك وجهين للحقيقة؛ الأول يتعلق بضآلة العائد المادي من الوظيفة التربوية، وكون مرتباتها في القطاع الحكومي لا تقيم حياة لبني آدم نريد له الكرامة والالتزام المهني. علينا أن ندرك أن هذا الظلم بذاته أهم وجه معزز للفساد، ومسبب أول لاتساع ممارساته، ونحن إذ نغض عنه الطرف، ونستبعده من معالجتنا لأسباب التردي، نصبح شركاء في استمرار الفساد التعليمي. والثاني أن ضعف الدخول هو ما يفضي بالمعلم نفسه إلى تفضيل الامتحان كأداة تقييم، يقبل بكونه \”ضرورة\”، تغنيه عن أن يتجشم بنفسه الجانب الأكبر من مسئولية تقييم طلابه رغم أنه قد عايش تعلمهم عبر عام دراسي كامل. في هذه الظروف يتحول المعلم صاحب مصلحة مباشرة، ويتماهى مع خصومه من المنادين ببقاء نظام الامتحان الراهن، وحجتهم هي القدح في ذمته، والقول بفساد المدرسين وتضعضع أخلاق أجيالهم الجديدة، وميلهم الفطري لممارسة الدروس الخصوصية. ولعل هذا هو السبب أننا لا نسمع من المعلمين دفاعا عن مهمتهم، ولا نجد بينهم كتلة كبيرة تدافع عن كرامتهم، وتصد ما يقال ويجرح تمتع المعلم بالنزاهة والموضوعية الواجبة لدى تقييمه الطلاب. ربما لأن حجة ضعف الذمم مريحة للكثيرين منهم، فهي علاوة على ما تعليه من موضوعية ظاهرية بترك الأمر للامتحان، يتحصلون من ورائها على دخل – عبر تولي مهمة الإعداد للامتحان وفقط – ما يعدل واقع الظلم عليهم بغياب الأجر العادل.

التعاطي مع مسألة الدروس الخصوصية كعرض لظاهرة فساد مركبة أمر مهم في ظني، فقد باتت الدروس ضرورة مرتبطة بشبكة \”ضرورات\” الفساد التعليمي التي أسلفنا القول عنها. بغير هذا التفهم لتعقد الظاهرة وتركيبيتها سيبقى الموقف من الدروس الخصوصية في جدلنا ينتهى إلى تثبيت كارثة الامتحانات، وهي المغذية من الأصل لظاهرة الدروس الخصوصية. أليس هذا أمرا مدهشا، ودليلا على إدماننا لدورانات الجدل الفارغة؟

من بين الأدوار التي ينبغي التنبه لها أدوار آلة المراقبة، التي تحتل ديوان الوزارة ومديرياتها، وأنمت بداخلها قطعان قوية متنفعة من وجود منظومة بائسة للتقييم؛ أوضحهم تجدهم بين هذه الفئة المسماة بالمفتشين، وغيرهم من قطاع واسع يتولى مهام المراقبة على العملية التربوية. فهم معادين لحلول التقييم التربوي الشامل والمستمر، ويرونه سحبا من قوتهم وسلطتهم على العملية التعليمية. هؤلاء كهنة معبد الامتحانات وواضعوها؛ يتمترسون ضد أي محاولة لتطبيق مناهج التقييم المستمر الجديدة، ويعرقلون عمليات التعلم النشط، ويراوغون ويخاتلون، ويبدعون في تعديل ما قد يمر تحت بند الإصلاح التربوي، بفرضهم ممارسات تحيل المسار  كله مرة أخرى إلى الامتحان. دأب بيروقراطي تقليدي يفرغ التطوير من معناه ويعطل الغرض الأصلي منه. والمأساة أيضا أن بعض من المشتغلين في أروقة الوزارة كمستشارين يعضدون هذا الهدر لمستجدات علم التربية ونظم تقييم مختلفة يعرفها في العالم، وهم أدرى بها، فجلهم من أساتذة علم التربية، لكنهم أعموا العين عن تجارب الإصلاح التي انجزت بعرض العالم وطوله، وأهملوا رؤية الحقائق وكيف أن غالب نظم التعليم المتقدمة قد استغنت تماما أو نسبيا عن الامتحان النهائي الذي يقدسونه، وتبنوا طرقا لاختبار قدرات ومعارف الطلاب مبدعة، لا تشبه بحال طرقنا المعززة لمسلك تعليب المعرفة وإنماء ملكة الحفظ دون ملكات العقل الأخرى.

التعليم الموازي وأوهام القمة

لفهم هذا الانحياز الضخم داخل نخبة بيروقراطية التعليم للامتحان علينا فهم عمليات التمويل الرسمية وغير الرسمية للامتحان ولمنظومة الإعداد له في خلال العقدين الماضيين، وكيف تخلقت منها جيوب للمنافع والتربح؛ بالأخص الرسمية منها، وتحديدا ما يتعلق بمكافأة الامتحان، وغير الرسمية المتعلقة بعوائد ما يسمى بمجموعات التقوية الطلابية، والأهم منها متحصلات الدروس للمدرسين، ومراكز التقوية الدراسية، التي يديرها القطاع الخاص والأهلي. إنها عملية معقدة لتمويل تعليم موازي، خارج المدرسة؛ عملية ترهق كاهل الآباء والأمهات بالأساس، ويعمون للأسف عن هذه المعاناة مع إغواء وهم \”كليات القمة\” المدمر. وهي ليست طرق التعليم البديلة التي يدعوا لها البعض، هي مجرد نسخة شائهة من التعليم المدرسي، تقض معنى التربية ومعنى المدرسة من جذورهما.

نحن إزاء ضرورات كان من الواجب أن ننفضها، ونتفق على عدم أولويتها لاكتساب المعرفة وإقامة منظومة للتعليم والتعلم حقيقية ومنتجة لنواتج تربوية وسلوكية مطورة لملكات الفرد ومعينة له على تحصيل فرص الحياة.

مكر التكنولوجيا وبؤس منظومة المراقبة

آمل أن حوادث الغش الأخيرة ستنبه سدنة الامتحان لمكر التكنولوجيا وسخريتها منهم. هذا الامتحان أمكن لصغار تسريبه بإمكانيات تكنولوجية غاية في البساطة، في أول دقائق الامتحان، بعد تسلم أوراقه. وخلال دقائق كان بإمكان عدد قليل من طلاب أقدم سبق لهم الامتحان وباستخدام الكتب ونماذج الإجابات في أيديهم بث الإجابات على مواقع يستطيع الطلاب ممن سربوا أجهزة هواتف مخفية مطالعتها في داخل اللجان ونقل الإجابات عنها، والنقل عبر سماعات \”بلوتوث\” عمن يمليهم الإجابة نقلا عن هذه المواقع. لا كل هذا القطاع الرقابي المتضخم داخل الوزارة، ولا الاحتياطات الأمنية الرهيبة، منعت الغش الجماعي، ومجمل هذه الأساليب التي تعافر الوزارة في فرضها تهزمها تكنولوجيا بسيطة، ويصير معها حديث الأخلاق حديثا عبثيا عاجزا بصورة فاضحة عن المواجهة، وما نلوكه حول ضرورات الأمرين الرقابة وفرض الالتزام الأخلاقي مجرد كلام فارغ في عيون أبنائنا، فهم مدركون لتناقض المنظومة ورعايتها للفساد وافتقارها للعدل.

بين منظومة الامتحان البوليسية وتنامي القدرة على إفشال موضوعيتها المدعاة، تواجهنا أسئلة ولا نود الإجابة عنها. هناك مدمنون للاستبداد التربوي، ولمنظومات المراقبة الاجتماعية، وترجمتها داخل منظومة التعليم على النحو  الراهن، وبعضهم متنفع من جعل الامتحان بمثابة الدجاجة التي تبيض لهم ذهبا. لكن ألا يوجد مجال لمواجهة هؤلاء؟ ألم يأن بعد أن تنتبه جماعة المعلمين في مصر، وهم الفئة الأكبر بين المهنيين في هذا البلد، إلى تحرير مهنتهم من أن تستحيل أداة لتعليب المعرفة التافهة؟ ألم يأت الوقت المناسب لأولياء الأمور لكي يقولوا كفانا من هذا العنت، وارفعوا عن كواهلنا هذه الأعباء الثقال التي لا طائل من تحتها؟ هل على المجتمع أن يتخلص من التوهمات الاجتماعية المظهرية التي تجعل الآباء والأمهات يتنافسون وغيرهم على تحصيل كليات القمة لأبنائهم وبناتهم؟ هل من يصرخ في وجه للرئيس ووزيره بأن الامتحان وصنوه الدروس ومكتب التنسيق ثلاثية عفنة ضد التعليم وضد التقدم. وأن أحاديث الأخلاق ليست إلا مراوغات ومخاتلات بائسة.

من يطرح السؤال الصعب؟

ربما سيقول لي قائل متشكك أن أولاء جميعا شركاء في مصلحة بقاء ثالوث العفن. كلهم متنفع من وجوده بصورة أو بأخرى. وإن سلمت معه بهذا التشكك، فسيبقى لدى أمل في أن تخرج مجموعات من بين هؤلاء لتفضح هذا التواطؤ الاجتماعي، وتطالب بصوت عال أن يتوقف نظام مدرسي هو مجرد مسخرة، وصخب بيروقراطي وتعلم صوري لا يحضر فيه الطلاب إلى المدارس في الأصل، وإن حضروا فهم لا يتلقون تعليما حقيقيا. آمل في أن يهب أمام هذه المخاطر قطاع من المجتمع وقد حركه وعيه بمدى بؤس ما نحن فيه، وخوف يتملكه من صعود الجهالة وضيق الأفق وضحالة المعرفة، التي تصنع مجتمعات الاستبداد وتدفع بآلاف من شبابنا لأحضان ديكتاتوريات تعدهم بالجنة والخلاص والموت، ولا تمنحهم في الحياة أمل، ولا تجعل للمعرفة والعلم في معادلة مستقبلهم أي نسبة معتبرة.

وآمل في المثقفين وأهل الرأي أن يدركوا أن إيقاف آلة المراقبة والامتحان هي واحدة من مربعات النضال من أجل الحرية في هذا البلد، وأن يفضحوا المخاتلات التي تلعب بها رأسمالية التعليم الفاسدة، ومؤسساتها البيروقراطية، وحملاتها الدعائية التي تدين الضحايا وتستر الجناة. عندما أطالع هذه الفيديوهات التي سخرت فيها بعض البرامج من طلابنا الجامعيين وجهلهم بتاريخنا وفشلهم في معرفة أبسط المعلومات العامة أو حتى الواقعة في نطاق تخصصهم الدراسي، أجد في داخلي صوتا يصرخ ويشير إلى المنظومة: هؤلاء العاجزون من فتياتنا وفتياننا عن المعرفة هم ضحاياها. هؤلاء هم من أهدرت حقوقهم في التعليم الجيد وفي فرص للمعرفة تفتح أمامهم آفاق المستقبل. وطالما بقيت هذه المنظومة التي تقوم على غبنهم وسلب حقوقهم، وإرغامهم على معرفة غثة، وبأساليب قهرية، سيستمر معقل الفساد المسمى نظام الامتحان والتنسيق على حاله، وستنتج هذه الماكينة الشريرة لنا ضعاف العقول والمشوهين والعاهات الفكرية، إلا من رحم ربي، واستطاع أن ينفد بجلده وعقله من هذا العفن.

لا زلت عند اعتقادي أن هذا النظام ليس إلا \”وديعة كرومر\” التي لم يتحرر تعليمنا مطلقا منها، بقيت بغرضها المرسوم منذ عهد الاستعمار تنتج موظفين في درك سفلي من المعرفة يستطيعون بالكاد أداء أدوار روتينية تعيد انتاج نظام الاستعمار في صورة نظام للاستبداد بديباجات وطنية. فمتى نفضها وننفض عن كواهلنا ثقلها ونحرر أبناءنا من قيدها، ونرد لهم حقهم في المعرفة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top