عبده البرماوي يكتب: في مديح الكرش

ولعمري، تلك أشياء ترسم مصائرنا وأقدار تحدد معاني وجودنا.

عشرة الكرش وعقد صداقة حميمة معه والوفاء له أمور صعبة! تقتضي منك صبرا على رزائل تثقل النفس ورزايا ترهق الروح، ليس أقلها تلك النظرة اللائمة، ولا مبلغها هذا السؤال بالغ البضينة: إيه يا عم اللي مدلدل قدامك ده؟

أمور تقتضي منك أن تسير راضيا خارج القطيع الحالم بكماله الجسدي، المزهو بإرهاق روحه بحمية قاسية أو بتريض أبله، المنسحق في ترهات الحديث القاسي عن التخلص من الكرش وإزالته وقتله بسموم الكيمياء وبموائع الطعام. تحرر من عبودية الكمال المتوهم، وارتحل صوب جنان من نعيم يمنحها الرضا بالنفس، وتقدير قيمة العشرة، والانسجام مع ما قد يبدو للعابرين نتوء غير منتظم وبروز لا يستقيم.

لا يخادعونك بحيلهم الاستهلاكية الساذجة، ولا تترك أذنيك مكبا لوسوستهم؛ النحافة خطر، ربما أكثر من السمنة المفرطة على جسدك، وكرشك ليس علامة كما يشيعون بإعلاناتهم وأفلامهم على انهيار اللياقة البدنية؛ فإن كان ادعاؤهم صحيحا فبماذا تفسر وجود ذوي كرش في بطولات العالم: لكم رأينا ثقال الكرش خفاف الحركة في مرابع المنافسات، وساحات النزال. هل ثمة رياضة تعرفها أقوى من دفع الجلة، هل رأيت رماة الجلة العظام بغير كرش؟ وهل ثمة نزال أشد من السومو، فما هذا الشئ الذي يسم مصارعي اللعبة المخيفة. سيقولون ثخانة الرأس من ضخامة الكرش، وتلك أيضا فرية، فهل تعتقد أن برنارد شو ليس بمفكر لماح أو أن إسماعيل يس ليس بملك لخفة الروح وحرقة السخرية، أو أن محمد قنديل ليس سلطانا للطرب، أو أن محمد علي ليس ببناء عظيم، وباشا فخيم؟

حتى لو صدقوا وصدفوا، فلا يقللن هذا من حلاوة الكرش شيئا: آلام الظهر في حضرته تهون، صدقني، يا صاح، ولتسأل نفسك: وهل خلوت يوما من ألم؟ أما انقطاع الرؤية بينك وبين شيئك، تلك التي تثير هواجسك، فليست شيئا ذي بال يقف عاقل عنده؛ ليس فقط لأن لم تمنح شيئك بالأساس كي تتأمله، أو تبرز عمال على بطال حضوره، بل إنما خلق للستر، كما أنه في النهاية حليل غيرك، سواء أحن عليه أم عابثه. ففيم انزعاجك؟

كن صريحا مع ذاتك، ولا تخن مشاعرك الحقيقية، لتساير قطيع المهاويس، سل نفسك: ألا تغمرك السعادة حين تدلف كفك أسفل الثياب وتدور بها حول السرة علامة النشوة، ألا تربته حين تشعر بالشبع وابتسامة الرضا تينع من جذور تمتد لقلبه، ألم تقف أمام مرآتك يوما مخاطبا تكوره المثالي الذي يصنع نصف هيبتك ويملأ فراغ بذتك؟

هل نظرت يوما لصورة الشاب الضئيل الذي كنته؛ ذلك الذي لم تتحدد ملامحه بشكل واضح، ويبدو من الخفة بحيث لا يلحظ وجوده أحد، ولن تقف عند كتلته المتناهية صغرا عين شبقة أو ابتسامة متسائلة. هل فتشت عن الفارق لحظة امتلأت عينك بالاستنكار، بل والاندهاش من هذا الماضي النحيف؟ حتما فعلت وعرفت أن هذا الذي تنتابك الحيرة النفسية وتغمرك الاضطرابات الشعورية إزاءه هو ما صنعك، وما أكمل هيئتك وبدد غيام شخصيتك ومنحك بروزه البروز بين الخلائق.

ألا تراودك مشاعر الأبوة حين تجلس فتجده قد انفرش بسلام ودعة فوق حجرك، وكأنه طفل صغير، تهدهده وتهننه كي يغدق عليك بالنظرة الباسمة التي تشغلها هذه التكويرة الرائعة؟

لو قررت التفرغ لتوجيه المزيد من هذه الأسئلة المنطقية لعازني فوق العمر عمرا ولاهلكت بعد الدهر دهرا بغير أن تنقضي تلك الأسئلة. لهذا وباختصار:

ارض بمنحة الرب ونعماء المصور البارئ؛ واوف لهذا المستدير بوليمة تليق بمليك جليل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top