عبده البرماوي يكتب: طبول كيسنجر وطبلنا

يبدو أن عالمنا المتشائم المملوء بالخوف يعشق الوقوف على أطراف أصابعه كل بضع سنين منتظرا حرب الجميع ضد الجميع، ويتشهى حربا عالمية لا تبقي ولا تذر. ويبدو أن البعض في عالم الأفكار ومهنها قد وجد طريقا ممهدة لشهرته، تقوم على تغذية هذا الاشتهاء، ويحظى بملايين الآذان المنتبهة بسبب ما يطرحه من سيناريوهات النهاية الدموية للعالم.

كيسنجر – داهية السياسة البراجماتية الأمريكية الذي لا يخلو تاريخه من صنع الحروب – ليس واحدا من هؤلاء، ولا نعرف أنه تفرغ يوما للتكهن بنهاية العالم. لكن صحافتنا التي لا شبيه لها، منحت العجوز هذه المهمة التي لم يطلبها يوما، وأجرت على لسانه الحديث عن خراب العالم أو بالأحرى نهايته، ملتفتة عن أفكار يطرحها والتي لا يقل بعضها خطورة عما توهمته. فصار بها ضحية، وكأنه لون من الانتقام الساذج وغير الواعي من جانبنا، ننال به منه وهو الذي يحمل في رقبته دينا ومسؤولية عن فاصل سيء من فصول الصراع العربي الإسرائيلي وتحولات المنطقة في السبعينيات.

وبعيدا عن شائعة طلبه الزواج في السبعينيات من راقصة مشهورة (وهي قصة مسلية على أي حال)، لم تنقطع عبر الأعوام الأربعة الفائتة تعليقات واستشهادات بحديث متخيل اختلقته في 2011 صحيفة إليكترونية إنجليزية اسمها ديلي سكيب، تعرف نفسها بوصفها صحيفة للهزل السياسي. نسبت فيه لكيسنجر تنبيهه لضرورة الانصات لطبول الحرب العالمية الثالثة، وتوقعه تفاصيلها. وقد أعادت بثه صحف هزلية أخرى بعد عام عنوانها ذو دلالة مضحكة، وهو الأول من إبريل. وتورط البعض عندنا في الترويج لهذا الهزل كحقيقة، رغم تعدد من نبهوا لهذا الخطل مرات ومرات. الناقلون بالعمى في صحافتنا لا يدركون أن الدس الساخر على السياسيين هو لون من الصحافة الساخرة معروف وله تاريخ، يحمل في طياته النقد والتعريض بمن يستهدفه وكشف مواقفه عبر المحاكاة الساخرة. ولا حاجة للتنبيه إلى أن مثل هذه الكتابات لا تؤخذ على محمل الجد، ناهيك عن أن قيام أحد الكتاب بالاستشهاد بها هو من باب الفضيحة.

هذا عندهم، هناك في بلاد تحاسب الكاتب حسابا عسيرا على مسؤولية الكلمة، ولا تتسامح معه إذا ما أدمن الاستسهال واطلاق الفرايا الكاذبة، أما في بلادنا المنكوبة بصحافتها، فقد تلقفنا الحوار المختلق وكأنه الكنز، وبتنا نغرف منه كلما عن لنا. ورغم أن كتابات الرجل ومحاوراته متاحة على موقعه، وبإطلالة سريعة عليه يتبين لأي ذي عين أن الحوار مختلق. ورغم تكرار تكذيبه على مواقع التواصل الاجتماعي، وكنت منذ فبراير 2012 واحدا ممن نبهوا لتلك الفضيحة، ظلت تتكرر الاحالات إليه كالإصابة الفيروسية، واستمرت العديد من الصحف في مختلف بلداننا العربية، وعدد ليس بالقليل من نخبة الكتاب في تبني هذا الهزل والتعامل معه على أنه حقيقة. والمرء بات يضحك ملء شدقيه من كم الجدية والحماس لتناول الكلام المختلق في وسائل الصحافة  المطبوعة والإلكترونية فضلا عن التليفزيون، وأحيانا أتحسر على تلك الحظوة التي قوبلت بها مقالات تورطت في الاستشهاد بهذا الهراء، سطرها كتاب معروفون.

حين تنقب عن السبب لن تجد، لكن ربما تستشعر جذرا لها في ملامح ثقافتنا التي تخشى النقد، وجذر آخر في آلات التجهيل والتعمية. ما أثارني في فبراير 2012 للتفتيش عن أصل الخبر، أنه قد جاء من عندها، سيدة هذا اللون من الأخبار المختلقة والشائعات. البداية كانت منصتها هي صحيفة الفجر المصرية. كانت الفجر في هذه الفترة ومنذ نجاح ثورة يناير في الإطاحة بمبارك، وتهديد مراكز القوة في نظامه، قد نشطت الفجر شبكة إعلامية واسعة ضمت صحفا وقنوات وثيقة الصلة بأقطاب نظام مبارك السياسية والاقتصادية، في بث روايات وأحاديث ملفقة، كاستراتيجية لحصار الوعي الجديد الذي صنعته الثورة. صحيح أنها هذه الصحف قوبلت بالنقد الواسع بسبب التجهيل وعدم التدقيق في صدقية ما تتداوله، لكنها استمرت في مهمتها هذه بإلحاح ممنهج. وضمن هذا العبث، نقلت الفجر حوار كيسنجر المختلق، لتتبعها صحف أخرى من مختلف الدول العربية في نشره. حتى صار الأمر محلا للتندر الغربي، مع وقوع صحف بعضها كبير في هذا الفخ.

لم يتوقف الاستشهاد به في 2012، رغم التنبيه بأنه مختلق ومجرد سخرية. ونطالعه إلى اليوم في كتابات واسعة الانتشار، وآخرها طالعناه في الرابع من الشهر الجاري، في الحوادث اللبنانية. وقبلها كان سيلا لم ينقطع من الاستشهادات والاحالات لخرافة كيسنجر، خذ عندك ههنا مقالا لكاتب أردني، وههنا في مقال لكاتب عراقي قبل أسبوعين (تبنه الرجل لخطئه فعاد واعتذر في مقال لاحق)، وهنا لكاتب سعودي في 2014 وهنا لكاتب قطري وهنا كاتب بحريني في اكتوبر لماضي. بل وسنشاهد ههنا تقريرا خبريا لقناة عربية في 2013 وأخر صيغ على نحو بالغ الحماسة هنا في 2015!

ولعل المرء يسأل لماذا هذه الكثرة من الاستشهادات بالعجوز؟ هل يؤمنون حقا بمرجعيته في فهم السياسة العالمية وشؤون المنطقة؟ إن كان الحال كذلك، فلماذا هذه المفارقة في تجاهلهم التام لحواراته وكتاباته الحقيقية، التي تتناول بالفعل ما يتعلق بمنطقتنا؟ لم أجد لمقاله المنشور في اكتوبر الماضي في وول استريت جورنال على أهميته، وما ورد فيه ويخص الأزمة الراهنة في العالم العربي، استشهادات في تعليقات كتابنا المتحمسون، اللهم إلا ملخص لفحوى المقال. أما حواره مع محرر مجلة ذي ناشيونوال انترست المؤثرة في أوساط اليمين فقد غاب تماما، ومثله محاضرته أمام مجلس العلاقات الخارجية في الشهر الماضي. حتى حديثه فيها عن ضرورة التقارب الأمريكي مع روسيا، والسعي لتوفيق المصالح في الشرق الأوسط معها، والعمل على توحيد الرؤى بينهما حول كيفية مواجهة داعش، وهو توجه خالف فيه السائد في واشنطن، حظي هناك بالنقاش ولم يحظ في المنطقة موضوعه بأي اهتمام. حتى الاهتمام بكتابه عن النظام العالمي، لم نره إلا عروضا مقتضبة كهنا وهنا.

يبدو أننا لا يعجبنا من كيسنجر إلا طبله المتوهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top